random
جاري التحميل ...

الآيسكريم المُجرِم

 

قبل مئة سنة عاش فلاح متواضع في قرية صغيرة هامشية لا وجود فيها لمدرسة ولا تهتم إلا بالزرع والضرع. كان هذا الفلاح يحب أرضه جدًا، ويشعر أن نهار كل يوم فرصة عظمى ولا تعوض لرعاية مزرعته التي ورثها عن أبيه وجده،  وبالتالي حفاظه على الأمانة، وممارسة دوره في هذه الحياة.


أَحبّ الفلاح حيوانات المزرعة من المواشي والدواجن عمومًا، وعلى وجه الخصوص عشق الديك عشقًا جنونيًا، إنه يعـدّه جالب السعادة للكون، فهو يراه كل صباح يصيح بإخلاص، وبعد صياحه تشرق الشمس، وينعتق من الليل الذي طالما كرهه. وجود الديك لازم لشروق الشمس. 


وهكذا ارتبط في ذهن هذا الفلاح البسيط أن صياح الديك سبب لطلوع الشمس. وهذه نتيجة توصل إليها بعد أن رصد العملية سنوات كثيرة، ولذلك فهي عنده مسلمة من المسلمات لا ينازع فيها إلا جاهل.


خلط هذا الفلاح البسيط بين مفهومي الارتباط والسببية، وظن أن ارتباط شيء بشيء آخر يقتضي أنه سبب له وعلة لحدوثه. والواقع أن شروق الشمس لا علاقة له بصياح الديك ألبتة، ولو أن هذا الفلاح أحال ديكه العزيز على التقاعد، واقتنى قطة شيرازية أو كلب هاسكي، لتبين له بالدليل القاطع أن الشمس خرجت في موعدها ولم تلتفت لغياب الديك المواظب! 


تقول الحكمة الغربية "Correlation does not imply Causation" وهي تعني: الارتباط لا يعني السببية. وقد سماها بعضهم بالتساوق الذي يعني حدوث أمرين في وقت واحد أو بتتابع واحد. وهي بالطبع لا تعني أن أحدهما سبب للآخر أو أن أحدهما لازم لحدوث الاخر. هي فقط تنبئ أن الأمرين بينهما علاقة أو ارتباط لا أكثر.


لو راجعت تقارير مراكز الإحصاء في كل دولة، لوجدت علاقة غريبة تجمع بين أمرين لا تلاقي بينهما. ستلاحظ دائمًا أنه كلما ازدادت مبيعات الآيسكريم، ازدادت حالات الغرق! أجل هذه أرقام وإحصائيات لا تكذب. فهل استهلاك الآيسكريم يسبب الغرق!؟


لو حللنا الأمو لوجدنا علة تجمع الأمرين معًا وهي ارتفاع درجات الحرارة، فهي تجعل الناس تقصد المسابح والبحار والشواطئ، وتتبرد بالسباحة وتتلذذ بها، وهي ايضًا تجعل الناس تُقبل على استهلاك الآيسكريم والاستمتاع بلذعة البرد التي يُحدثها في الفم.

إذن الايسكريم بريء من التهمة، ولا يحمل إثم من يغرق.


يقول البعض: الزواج سبب للسعادة، ويستشهد بتقارير تقول أن المتزوجين أكثر سعادة من نظرائهم من العزاب. وينسى أن العلاقة التي جمعت السعادة بالزواج مجرد ارتباط وتساوق، وليس الزواج علة تدور معها السعادة وجودًا وعدمًا.


ولو سلمنا بصحة هذه التقارير فلن نعرف: هل الزواج سبب للسعادة، أم أن السعداء لأنهم سعداء اختاروا أن يتزوجوا وينشئوا أسرًا سعيدة!؟ أم لشيء ثالث لا ندري ماهو؟ هذه التقارير تخبرنا بوجود العلاقة فقط.


هذا التفسير خاطئ لذاته، وسطحي أيضًا لأنه يجعل ظواهر الحياة نتيجة لسبب واحد واضح وهذه بدورها مغالطة أخرى، تستسخف حقائق الحياة وظواهرها التي نشهدها ونختبر أثرها، ونعلم تعقيداتها وأنها لا تحدث لسبب واحد أو علة واحدة، بل هي محصلة لمجموعة متنوعة من الأسباب والظروف، وهي أكبر وأعظم من أن تحدث لعلة واحدة أو لسبب واضح يعرفه كل أحد كالنار والماء.


في التعليم يصر كثير من الناس أن سبب تدهور مستوى الطلاب يعود إلى كون المعلم لم يعد يملك الصلاحيات اللازمة، من الضرب والجلد والفلكات. لم يعد مدججًا بالأسلحة المهمة التي جعلته يعسف الطالب ويكرهه على تحسين مستواه "بالطيب أو بالغصب".

المعلم الان مَهيض الجناح، منزوع المخالب والأنياب، لا يستمع له الطلاب ولو استمعوا ما أطاعوا، ولتركوه يستجديهم ويترجاهم ولا نتيجة! لأنهم يعلمون أنه لا يستطيع فعل شيء، وأنهم في النهاية سينجحون!؟


ونسي هؤلاء العباقرة أن مسألة التعليم مسألة مركبة من عناصر كثيرة من الطالب وأسرته، والمعلم، والمنهج، والمبنى التعليمي، والنظام العام، والثقافة السائدة، إلى غير ذلك من الامور. وياليت أن السبب كان ما زعموا، لكّنا استرحنا، وصرفت الوزارة كل سنة عُهدة من الخيزرانات والعصيان والليّات، ولظفرنا بأحسن النتائج وأقل التكاليف.

عن الكاتب

Tariq Al Khamis

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

طارق الخميس