random
جاري التحميل ...

استرخوا رحمكم الله

 

صورة من موقع بيكساباي

من جد وجد ومن زرع حصد. 

عبارة يسمونها حكمة. اكتسبت قوتها من تجربة الناس لها، ومن تواترها جيلًا إثر جيل.


جملة رحيمة -وإن لم تكن سهلة- ومضمونها مطمئنٌ ومشجع، يعطي الناس تفاؤلَا يسمح لهم بخوض صراع الحياة واكتساب مزاياها بأنفسهم.

لم لا؟ فالوقت متاح، والأقلام لم تجف والصحف لم ترفع والفسحة أمامك. ينقصك فقط الجهد والبذل والالتزام وستصل بإذن الله لكل ما تريد.

أعلم أن هذه الجملة ليست على إطلاقها، وأن كثيرًا من الناس جَدَّ ولم يجد، بل إن بعضهم زرع وتعب ثم حصد غيره الذي لم يفعل شيئًا. وأُدرك أيضًا أنها ليست قاعدة أو قانونًا طبيعيًا، وأن شواذها واستثناءاتها أكثر من أن تُحصر. ليس هذا هو المقصود طبعًا، فكل مقولة إن شئنا جعلنا لها شواذ واستثناءات. لكنني سأنظر إلى العبارة من جانب آخر.


عندي يقين أن كثرة العمل والانغماس الشديد فيه تجعله ناجزًا تامًا. المجتهد في عمله وإنجازاته سيحقق في الغالب الأهداف المرجوة منه ولن يتعثر.


 ما المشكلة إذن؟ 

المشكلة كما أرى أن الأفكار المهمة والإبداع الأصيل من الصعب أن تظهر وتنبثق في ظل ظروف كهذه.


يحتاج الإبداع إلى فراغ وراحة نفسية وجسدية. فالمُرهَق مُستنزفٌ، وضبابي العقل، ولا يستطيع إنتاج شيء ذي بال. 

نعم قد ينجز العمل المطلوب منه، أو يؤدي الحد اللازم من الأهداف. لكن عمله لن يتجاوز حدود المألوف فضلًا عن أن يخترق اختراقاتً غير مسبوقة.


يظن البعض أن التركيز الشديد وكدّ الذهن علامة جد واجتهاد وفضيلة لا تأتي إلا بخير، وأن الأفكار الابتكارية والإبداعية تولد من رحم المعاناة، وهي أيضا نتاج للعمل الجاد المتواصل الدؤوب الذي يصبو إلى هدفه بلا كلل ولا ملل.


باختصار: هذه أسطورة. الفكرة المهمة التي تغني عن كثير من العمل، والجوهرة النفيسة والتأملات الكبرى، والاختراقات العلمية، تأتي دائمًا عند الاسترخاء وترك العقل منطلقًا ومسترخيًا على راحته.

تَذكّر كم مرةً جاءتك فكرة وأنت في حوض السباحة أو "الجاكوزي" أو متمدد بين أحجار الساونا مسترخيا لا يشغل بالك شيء، وفجأة تنبع الفكرة في رأسك من العدم وتقدم نفسها لك هدية بلا تعب وبلا عصف ذهني.


يعلم الرياضيون وُبناة الأجسام أن الراحة مهمة كالتمرين بالضبط، ويعتقدون -كما أعرف- أن الراحة هي الوقت الذي تنمو فيه العضلات وتكتسب مزيدًا من القوة والمرونة.


لحظة، هل هذا يعني أن تجلس هاملًا تنتظر الفكرة العظيمة "الجهنّمية" أن تقفز إلى عقلك!؟

بالطبع لا، فهذا الأمر لو كان صحيحًا لوجدنا الكسالى والبطّالين هم أكثر الناس إبداعًا وأغزرهم أفكارًا. 


إن انبثاق الأفكار، ونماء العضلات في وقت الراحة والاسترخاء،  ما كان ليحدث لولا الاجتهاد والانضباط المستمر، وتعويد النفس على العمل في سائر الأوقات الأخرى.

 العمل العميق والجاد، هو الذي يهيئ العقل لاستقبال الأفكار، التي- كما قلنا- لن تأتي إلا في حال الراحة والاسترخاء المسبوق بعمل واجتهاد وتركيز.


من جهة أخرى، جميعنا نعرف أن الخيال عاملٌ  من أهم عوامل الإبداع، وقد نُسب إلى إينشتاين أنه قال: "الخيال أهم من المعرفة". تساءلت يومًا وقلت: هل يجد الغارق في العمل، المشغول بتفاصيل ما يصنع، وقتًا للخيال والتحليق بجناحي العقل والعاطفة؟

وقد كانت الإجابة واضحة ومحزنة، وهي أنه للأسف لا يستطيع ذلك أبدًا.


نشر لوكاس رايلي وهو من كبار محرّري مدونة Mental Floss مقالًا بعنوان: لماذا تأتي أفضل أفكارنا أثناء الاستحمام؟

قال فيه (والنقل بتصرف): “دماغك لا يكون في حالة النشاط القصوى عندما تركز في عملٍ أو أداء مهمة، بل أظهرت الدراسات أن دماغك يكون  في حالة نشاطه القصوى عندما تترك مِقوَدَه حُـرًّا، وتدعه يجول في الأرجاء كما يشاء بلا حواجز أو قيود”.


أنت في الحمام -أجلّك الله-، تَفرُك أصابع قدميك بلا وعي، وفجأةً تخطر ببالك فكرة مُلهمة. في تلك اللحظة من الصفاء الذهني قد تصلك إجابة لسؤال أَعجَزَك، أو حل لمشكلة في عملك أو عائلتك أسهرتك لياليَ عدة. تلك لحظة لا تقدر بثمن.


لكن، لماذا يحدث هذا؟

 أغلب الظن، أن الاستحمام إجراء روتيني معتاد لا يتطلب تفكيرًا ولا تركيزًا، لذلك فإننا خلاله  ننتقل من وضع العمل الطبيعي إلى وضع الطيار الآلي الذي يؤدي مهمته أوتوماتيكيًا.وهذا يحرر عقولنا اللاواعية ويسمح لها بالتجول والقفز من مكان إلى مكان بانطلاق وحرية. رابط المقال https://cutt.us/sdgsA


أجمع أهل العلم وأهل الجهل في زماننا أن أكثر مخلوق نقضي أوقاتنا معه هو: الجوال.

اتصالنا بالعالم، ومعرفتنا بما يجري حولنا من أحداث، أمرٌ جيدٌ ومفيد. لكن من غير المعقول أن تكون حياتنا الافتراضية هي النمط الدائم الأصلي، وحياتنا الواقعية  هي النمط المؤقت الطارئ!!


هناك لحظة يسميها "الخواجات" لحظة الـ"آها!" وهي ثانيةٌ محبّبة للنفس، تنطلق بلا قصد وتنبئُ عن فرح عميق ومفاجأة سارة. هي عينُها اللحظة التي صاح حينها أرخميدس: "وجدتها… وجدتها" عندما اكتشف قانون الطفو، واكتشف اللص الذي غش تاج الملك.

أخشى أننا سنحرم من لحظة الـ"آها!" الرائعة إلى الأبد، فلا أظن التقنية ستسمح لنا بها.


يقول ستيف جوبز: “الإبداع هو مجرد ربطٍ للأشياء”،  ويمكن ترجمة مقولته إلى أن الإبداع: توصيلٌ لنقاط متفرقة.

بالنسبة لأولئك الذين يعملون في مجالات تتطلب الإبداع -وهم كثر في زماننا- فالحاجة إلى الأفكار الأصيلة الذكية حاجة ماسة لا يمكن الاستغناء عنها. 

والحق أننا كلنا ومهما كانت تخصصاتنا وأعمالنا، بحاجة إلى وقت نستطيع فيه ربط الأشياء، وتوصيل النقاط المتفرقة كما قال جوبز. ويحسن بنا أن نمنح الوقت لأنفسنا لا لهواتفنا، أن نهبه لعقولنا عن طيب خاطر حتى تبتكر وتبدع.



الملل ناتج من نواتج الفراغ. لا بأس بذلك، فقبل مئة وعشر سنوات كان آرثر وين يعمل بصحيفة "نيويورك وورلد" وكان يشعر بالملل كثيرًا. فاخترع أحجيةً ليتسلى بها، سُمّيت فيما بعد بـ"الكلمات المتقاطعة". 

اللعبة التي انشغل بها الناس -لا سيما الموظفون- عقودًا من الزمن ظهرت من العدم إلى الوجود بسبب ملل صحفيّ أراد تسلية نفسه.

 بالمناسبة نشرت الصحيفة هذه اللعبة، واشتهرت بها، وازدادت مبيعاتها قفزًا كالصاروخ بسبب ملل صحفي مغمور!


عندما نفكر في شيء ما، أو نسرح بخيالنا فيما يُسمّى أحلام اليقظة، فإننا نستفيد كثيرًا من حالة العقل الباطن. العقل الحُرّ الذي لا يتقيد بحاجته إلى شيء معين، أو معلومات يُحللها كي يضع الأمور في ترتيبها المعتاد.


استرخوا رحمكم الله

وتذكروا: الفراغُ المسبوقُ بعملٍ وتركيز، منجمٌ للإبداع.


عن الكاتب

Tariq Al Khamis

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

طارق الخميس