random
جاري التحميل ...

أعظم اختراع في التاريخ

 

عُرّف الإنسان في بعض المراجع وعند بعض العلماء والفلاسفة، أنه حيوان ناطق. وقبل أن تنبري لشتم هذا التعريف وقائليه، أود أن أوضح لك أن قولهم "حيوان" معناه أنه فيه حياة وروح أي أنه حي، لكنه ناطق وهذا ما يميزه عن الحيوانات الأخرى.

مخلوق يستطيع نطق الكلام والإعراب عما في نفسه. وقد سمعت مرة معنى مغايرًا للإنسان الناطق، فقد سمعت بعض الناس يقول أنه ناطق من المنطقية والعقل وليس من اللفظ واللغة.
 وأرى أن هذا التعريف للناطق أبعد عما قصدوه، لكنني أحبه أكثر، فعقل الإنسان أكثر ميزة تجعل بينه وبين الحيوان الغير ناطق فرقًا جوهريًا واضحًا، فالببغاء تنطق، لكنها لا تعقل.

لو قلت لي يومًا ما أميز ما أنتجه هذا العقل الإنساني من المحسوسات والمخترعات، لقلت لك بلا تردد: الكتابة.

إنها ببساطة البوابة التي دخلت منها المعارف كلها، والأداة التي سمحت بانتقال العلم جيلًا بعد جيل. وقد صارت أعظم اختراع لا لأنها نقلت الكلام من صورة الاستماع المؤقت بالأذن، إلى صورة القراءة الدائمة بالعين فحسب، بل لأنها مدت جسورًا من التواصل بين الناس كلهم، الأحياء منهم والأموات.

نعم، هي أعظم من الكهرباء، ومن الأقمار الصناعية، ومن الإنترنت، وسأتجاسر وأقول غير خائف من سطوة المجتمع أنها أعظم من المكيف ومن خرائط قوقل!؟

الكتابة ولو كانت مجرد رموز بدائية، تعتبر نقلةً كبرى واختراقًا رهيبًا، جعلنا نعرف ملحمة جلجامش قبل آكثر من أربعة آلاف سنة، ونقرأ شريعة حمورابي القديمة كأنها كتبت في العام الماضي! مكنتنا الكتابة من التغنّي بشعر الأولين، وأدب الغابرين، سمحت لنا بالاطلاع على النصوص الدينية القديمة، والوثائق التاريخية العظمى.

أجزم أنك لو تتبعت أي اختراع في العالم لوجدت بدايته كانت من الكتابة، ولا أظن هذه الفضيلة تحققت إلا للكتابة. وبذلك، تستحق الكتابة أن تسمى أم المعارف، فهي التي أنجبت كل ما جاء بعدها من علوم وفنون وآداب واختراعات.

الكتابة نظمت الوعي، وسمحت بتراكم المعرفة ووثقت التجارب والخبرات، وجعلت علم الانسان خالدًا باقيًا لا تعتوره يد العبث، أو تشوهه طبيعة النسيان. وبذلك أطلقت الكتابة مشروع الحضارة، وأسست للمدنية التي نعيشها إلى اليوم.

بداية الكتابة في شكلها الحالي انتقل من فنون التصوير والرسم، إلى تمثيل صورة الحروف المنطوقة، وقد بدأ الكتابة بالشكل الذي نقصده، السومريون في بلاد الرافدين، أو بلاد ما بين النهرين - ولا أعرف الفرق بينهما - ، ثم المصريون والصينيون، وهؤلاء الأخيرون أضافوا إضافة عظمى ألا وهي الورق.

وبالتوازي شاعت هذه البدعة الحسنة عند جميع الشعوب والحضارات. أعلم ذلك، لكنني لن أستغرب لو اكتشفنا أن بداية الكتابة كانت وحيًا سماويًا ألقاه الله على أحد أنبيائه وعلمنا إياه، فهي هداية إلهية، وإلهام يقترب من المعجزة.


أجريت استفتاءً بسيطًا قبل عدة سنوات، على شريحة من الناس، عدد قليل من المعارف: وسألتهم سؤالً بسيطًا يقول: ما أعظم اختراع في نظرك؟

فجاءت أجوبة كثيرة، فمن قائل: إن أهم اختراع هو الخرائط (بفضل قوقل ماب) أو المكيف ( بيض الله وجه من اخترعه) أو الساعة، إلى قائل: بل أهم اختراع هو الليزر أو الطابعة أو الرشاش. ولم يذكر الكتابة غير شخص واحد فقط حسب ما أذكر.

في أصحابي شخص فيلسوف، كثير الشطحات، دخل الفلسفة على حين غفلة من الزمن، وظن أن الأمر سهل، فبدأ يتفلسف بداعٍ وبلا داع. كان ممن سألتهم، والحقُ أن إجابته فاجأتني، فقد قال لي إن أهم اختراع أدلى به الانسان في مؤتمر الكون، وأعظم دلو سكبه في مسيرة نهر الحياة الجاري هو: التنظيم!

فالإنسان وضع تنظيماً للسياسة والاقتصاد والعائلة … الخ، واستطاع الحفاظ عليه، ونقله لمن بعده. لا أخفيكم أنني أُعجبت بذكائه، واعتبرت فلسفته هذه المرة شطحة طيبة يشكر عليها، لأنه أخذ المسألة إلى أبعد مما هو محسوس.

 لكنني لا أوافقه طبعًا، فلا أتخيل تنظيمًا سينجح بلا كتابة، لأن التنظيم في الأساس عالة على الكتابة، وحسنة من حسناتها. حتى إن عصور ما قبل الكتابة، تسمى "عصور ما قبل التاريخ" كأن التاريخ صورة من صور الكتابة، أو كأن هذه العصور لا تستحق أن يذكرها التاريخ!


قال لي صاحبي ذات يومٍ تخيل اني أركبتك في آلة الزمن، ستذهب إلى أي فترة زمنية؟ نسيت ما قلت له يومها، لكنني أقول اليوم: ارمِ بي في أي زمنٍ، بشرط أن يكون من عصور التاريخ، لا من عصور ما قبل التاريخ، فلا أريد زمنًا بلا كتابة.

عن الكاتب

Tariq Al Khamis

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

طارق الخميس