random
جاري التحميل ...

الندم الجميل




لا تصادق شخصًا لا يندم.
جملة قرأتها يومًا ما أو سمعتها أو تخيلتها أو اخترعتها لا يهم، لكنني فكرت فيها فوجدت أنها عميقة جدًا. تُنبّهنا من الوحوش التي على أشكال بشر، من الذين لا قلوب لهم، من الذين يعتبرون الحياة ميدانًا للصراع لا يُسمح فيه بإظهار أي تعاطف أو ضعف.
مكانهم الطبيعي هو الغابة، وحتى الغابة لن ترحب بهم، فهي أجمل من ذلك وأرقى، يتهارشون فيما بينهم ثم ينامون ملء جفونهم عن رضًا واطمئنان. ما بين أضلاع صدورهم مضخة وظيفية للدم تسمى عند غيرهم القلب.

قرأت مرة أن ستالين وقع ذات مساء أمرًا بإعدام 50,000 شخصًا، ثم استلقى على ظهره وأكمل فلم السهرة! ولما لام الناس جساسًا على قتله لكليبٍ بناقة!؟ قال لهم: لو عاش كليبٌ ألف مرة لقتلته ألف مرة (مع العلم أنه قتله غيلة)! 

وقد تندم الحجاج بن يوسف ندامةً عكسيةً مناقضةً لما أعنيه هنا من ندامة القلب الحي، فقد تحسر على فوات ثلاثة من أهل الكوفة، ماتوا قبل أن يصير أميرًا على العراق، وقال: ثلاثة من أهل العراق لو أدركتهم لقتلتهم شر قتلة، فلان وفلان وفلان. إلا أن الحجاج ندم ندامة صالحة في آخر حياته على قتل سعيد بن جبير ظلمًا، وصار ينتبه من نومه فزعًا ويصيح: مالي ولسعيد، مالي ولسعيد!

لا يعتبر هذا الندم الصالح جلدًا للذات أو عيشًا في الماضي، كما يَبثُ ذلك بعض من يتكلم في التنمية الذاتية، بل هو دليل على حياة القلب وإنسانيته، بشرط أن يكون الشخص متوازنًا لا يُدمن الندم، يقضي حياته يتحسر ويلوم نفسه على كل شيء صغير أم كبير. فهذا الذي لا يُريده أحد ولا يشعر بالراحة معه أحد.

والندم ليس ضعفًا ولا عيبًا، كيف وقد ضرب العرب قبل الإسلام بالندم مضرب المثل، واشتهر به رجلٌ ليس له من ذكر في ديوان العرب إلا بسبب ندامته، هو الكُسَعِيّ. وهو رجل في الجاهلية، مر بشجرة جذعها يصلح لصنع السهام، فمكث عندها ورعاها وسقاها من قربته حتى استوى عودها، وصنع منها سهامًا وقوسًا تنفعه فقد كان يهوى صيد الظباء.

 أخذ قوسه وسهامه الخمسة، وضرب الفلاة يبحث عن ظباء، ثم مر بأرض صخرية فيها نبع ماء، كمن قرب شجرة كبيرة بجانب النبع، ينتظر قدوم الظباء. وفي المساء سمع وقع حوافر الظباء على الصخر فقد جاءت الظباء لتشرب، جرد قوسه واستعد، رأى واحدة فرماها بسهمه ورأى الشرر يقدح من الصخر، فظن الكُسَعِيّ أن السهم قد خاب وأخطأ. رجع مكانه وكمن حتى لاح له ظبي آخر، فرماه بسهم فقدح الشرر من الصخر كالمرة الأولى، وهكذا تكرر معه الأمر نفسه بكل سهامه الخمسة!

 استبد به الغضب وكسر قوسه وحطمها على الصخور، ثم نام بجانبها. ولما استيقظ في الصباح وجد خمسًا من الظباء صرعى، وعلم أن قوسه من قوتها كانت تخترق جسد الظبي ثم تضرب الصخر فتقدح الشرر فيه، فندم على كسر قوسه أشد الندم. ثم قال:

ندمت ندامة لو أن نفسي ** تطاوعني إذا لقطعت خمسي
تبين لي سفاه الرأي مني ** لعمر أبيك حين كسرت قوسي

ماضره ذلك وما رُمي بالعيب على إظهار ندامته، بل على العكس، صارت ندامته مثلًا يضرب لكل نادم، وكذا قال الفرزدق المعروف بكبريائه واعتداده بنفسه، لما طلق امرأَته نوار وندم عليها:

نَدِمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِيّ لَمّا ** غَدَتْ مِنّي مُطَلَّقَةً نَوَارُ
وَكَانَتْ جَنّتي فَخَرَجْتُ منها ** كَآدَمَ حِينَ لَجّ بِهِ الضِّرَارُ

لا أكتمكم القول أنني أخاف من الشخص عديم الندم، قليل التفكير في العواقب، الذي لا يلوم نفسه، ويرضى عنها تمام الرضا طوال الوقت. إنسان كهذا يكون في الغالب قاسيًا، يتخذ القرارات العظمى بسرعة. قنبلةٌ موقوتة، فُتح صمّام أمانها وبقي أن تُرمى على أي شيء فتنفجر وتحرق. أسأل الله ألا يوليه على أحد.

يتفاخر البعض أنه لا يندم على شيء، ويتشدق بملء فيه أنه يتقبل نفسه كما هي بكل عيوبها، والأدهى والأمـرّ أنه لا يسعى إلى تزكيتها وإصلاحها، ويعتبر ذلك صلابة نفسية وتقبلًا للذات. 
يكرر كل يوم: عيشوا في يومكم فقط، واتركوا الماضي لا ترجعوا له ولا تفكروا فيه!؟ ولو فهم مراد هذا الكلام على وجهه، لأدرك أن العيش في الماضي الذي يقصده من قرأ لهم وتأثر بهم، هو الاستئسار له والبقاء فيه، وجعله قفصًا لا يغادره صاحبه، وليس معنى ذلك أن تنسى كل ما اقترفت وتتبجح بكل ما صنعت، وتنفث علينا بَخَر فمك وسوء مذهبك كل يوم: هذا أنا فتقبلوني كما أنا!!

أتعجب من ذلك وقد وجدت الطيبين المنصفين كثيري الندم ووجدت نظراءهم قليليه؟! فليت شعري، كيف يندم من هو بعدله وإيمانه مستغنٍ عن الندم، وكيف لا يندم من هو بسوء أفعاله محتاج إلى الندم كل يوم؟!

عن الكاتب

Tariq Al Khamis

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

طارق الخميس