random
جاري التحميل ...

حياة من الورق

 

مروان شاب غامض لا يعرف أحد من أهل الحي ما صنعته وكيف يقضي حياته، وإن كان لا يغيب عن أنظارهم طويلًا. وربما تبادلوا معه بعض الحديث الذي نكرره كل يوم بلا هدف.

 ذات يومٍ ذهب مروان إلى متجر صغير لبيع الكتب في الطرف الأقصى من الحي، دلف إلى المتجر بصمت، ونظر إليه البائع بلا مبالاة على غير عادة بائعي هذا النوع من المتاجر، فهم يعتبرون زيارة القراء وأشباههم زيارة شخصيةً لهم، وكنزًا لا يُفرط فيه.

قلّب مروان عدة كتب، وعيناه شاخصتان كأنه يعيش مفاجأة لم يتوقعها. قال: وهو يتحسس أغلفة بعض الكتب، سأشتري هذه، لكن ليس معي مال الآن! أحضر البائع الكيس الورقي الفاخر وأخذ يحشوه بالكتب، وهو يهز رأسه ويقول: لا مشكلة، خذها على حساب المحل!؟

نعم على حساب المحل ببساطة. قد تستغرب من ذلك عزيزي قارئ هذه السطور، وقد تتعجب من أرباح متجر الكتب الصغير هذا، وكيف صار يعطي الزوار كتبًا بالمجان!؟ 

حنانيك يا عزيزي، فإذا عرف السبب بَطَل العجب (وليست بطُل: فهي بمعنى استبسل، وصار بطلًا) . هذا الفتى ابن وحيد لتاجر ميسور الحال يعيش في هذا الحي منذ مدة طويلة، وهو فيما يُظن مصاب بالبِبلومانيا أو هوس الكتب حيث يمتلئ المصاب به بالبهجة والسعادة لمجرد رؤيته للكتب، ثم تتفاقم هذه السعادة، ويصير لا يصبر عن جمع الكثير من الكتب وشرائها.

 وهكذا كان مروان، فهو يقتني الكتب بنهم شديد، وربما يقتني كتابًا، ولا يفتحه طيلة حياته، لذا فقد اتفق أبوه مع صاحب المكتبة القريبة أن يعطيه أي كتاب يطلبه فورًا، والأب سيدفع له ثمن الكتاب مع إكرامية طيبة.


اقتنع الأب بذلك بعد أن رأى ولده المسرور الضاحك دائمًا يكاد يذوب في أي كتاب جديد يشتريه، يتصفحه ويشمه، وربما ضمه إلى صدره وقبّله، لقد رأى في عيني ولده سرورًا وجذلًا لم يره فيهما من قبل.
 مع أنه كان يظن أول الأمر أن حب ولده للكتب حب للمعرفة والاطلاع كما يحدث مع كثير من الناس، حبّ من يشتاق للمعلومة، ويطرب للنادرة من الأدب والثقافة والفن. إلا أنه اكتشف نوعًا آخر من التعلق عند مروان، رأى عشقًا وظمأً لا يرويه إلا الكتب والمزيد من الورق، حتى صارت غرفته مكتبةً فيها سرير صغير للنوم.

لا يحصي الأب كم مرة فتح الثلاجة فوجد كتابًا أو كتابين، أو دخل دورة المياه وسحب "سيفون" الماء فتحشرج صوت الورق المحشور فيه، ولا عجب أن يحدث ذلك فمروان جعل البيت مصنعًا للورق!

لكنه يؤمن أن ولده مبدع بالفطرة، فكم سمع له من نقاشات تنضح بالعقل والاتزان، وكلما نظر في دفاتره يومًا وجد قطعة أدبية عذبةً خطها ابنه الوحيد بجمال وفصاحة. والأهم أنه يراه مسرورًا مبتسمًا كلما أحاطت ذراعاه بكتاب، فلا يتردد الأب بشراء المزيد من الكتب لابنه.

قرأ الأب ذات مرة أن الكاتب الكبير والأديب النحرير شكسبير، عاش حالة مشابهة لحالة مروان. وذلك في القرن السادس عشر أيام العزل الصحي في أوروبا، إثر تفشي الطاعون، فقد أُغلقت المدارس والمسارح والمكتبات، ولزم الناس بيوتهم بما فيهم شكسبير. وخلال إقامته في منزله انكب على الكتابة وأنتج أعظم مسرحياته وشعره، وصارت هذه الحالة البِبلومانية وقوده الذي عاش عليه طيلة عمره. تفاءل أن ولده سينتج شيئًا ذا بال، أو سيكون أديبًا يعيش في ذاكرة الناس أكثر من أبيه التاجر.


زاده سعادةً أنه يرى رسائل الفتيات المعجبات التي ترد إلى هاتف ابنه أو حسابه على الفيس بوك، فهذا يعني أن ابنه شاب رائع، وإلا لما نظرت الفتيات إليه وراسلنه.
 وفرح جدًا عندما قرأ عبارة "كيووووت" وبجانبها ثلاثة قلوب، ردًا على منشور لمروان، وظن أن هذه الكلمة موجهة لابنه، وتمادى خياله حتى اعتقد أن هذا التفاعل طلب خطبة مبطن تلمح به هذه الفتاة لفلذة كبده. مع أننا جميعًا نعلم أن ال"كيووووت" هنا موجهة لصورة الكتاب عند منظر الغروب، ولم يكن فيها من مروان إلا يده الممسكة بالكتاب فقط!؟


ذات يوم دخل على ابنه في صالة المنزل، ووجده مغطيًا وجهه براحة كفيه، ويتنهد تنهدًا مكتومًا كالبكاء، غير أنه بلا دموع. راعه ذلك، وأقسم على ولده أن يخبره بالأمر؟

رفع مروان رأسه بعينين حمراوين وقال: أبي لقد حدث في الدنيا شيء عظيم. ربت الأب على رأسه وقال: أنا معك يا بني، أخبرني مالذي يخيفك؟ أجاب مروان والدموع في عينيه: اكتشفت اليوم أن هناك شيئًا بغيضًا اسمه الكتاب الالكتروني، أنه هكذا مجرد بيانات، لا جسم ولا ورق ولا حبر ولا أي شيء!! لا شكل له ولا رائحة ولا يمكنني وضعه بين يدي والنوم وهو في حضني، لا يمكنني ضمه في الليالي الباردة، ولا أستطيع شمه؟!
 تخيل يا أبي لا أستطيع شمه ولا استنشاق عطر صفحاته! أي اختراع أحمق هذا!؟ ثم فرت دمعة من عينيه وقال: الله يدخلهم النار"حقين الكتاب الالكتروني"!

أنا أخاف ألا أجد المكتبات بعد اليوم، أخاف أن يُمنع الكتاب الورقي مطلقًا، فالكتاب الالكتروني يكفي، ولا داعي لقطع المزيد من الأشجار. أبي، عالم بلا ورق ليس عالمًا لي، الورق كالأكسجين بالنسبة لي، بدونه أختنق وأموت.

ضمه الأب إلى صدره وقال: لن يحدث شيء من ذلك يا بني، سيبقى الورق موجودًا حتى حفيد حفيدك لا تخف. واليوم بالذات عندي لك مفاجأة ستنسيك كل هذه المعاناة، فتجهز لها مساءً. ضحك مروان ضحكة المستهتر ولم يعلق.

وفي المساء، اصطحبه والده إلى معرض الكتاب الذي أقيم في المدينة، وهناك رأى مروان الورق ينبض بالحياة في كل مكان، شعر وكأن الورق يعيش أزهى عصوره، ويتقلب في أيدي الناس كأنه الذهب والفضة. 

ضحك مروان حتى كاد أن يبكي من الفرح، ونسي معاناته بالأمس، وأغمض عينيه في اطمئنان، فمطابع الورق ستستمر، والأشجار ستقطع أكثر وأكثر، ولن يعيش الأيام السوداء التي يغيب فيها الورق ويندثر.

رمقه والده من بعيد وهو يدفن رأسه بين الكتب متحمسًا ويتنقل بين دور النشر المشاركة في المعرض، وابتسم وأمسك هاتفه الذكي، وحمّل نسخةً من التقرير السنوي (PDF) فلا داعي لل "هارد كوبي" بعد اليوم!

عن الكاتب

Tariq Al Khamis

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

طارق الخميس