random
جاري التحميل ...

عادل وظالم


قبل زمن طويل، استوطن الناس منطقة تقع في مكان جميل. سهل منبسط، تحفه غابات ومزارع، ويتخللها نهر عذب يجري من الشمال إلى الجنوب، وتتوزع الحقول على جانبيه، والناس تقتسم حصصها من النهر على حسب العرف، وعلى حسب حجم الحقول، إذ لم تكن تقنيات الريّ قد اكتشفت بعد. ومن الشائع أن تحصل الخلافات والنزاعات بين أفراد القرية، على ماء النهر، أو الاراضي الزراعية المحيطة به.

في ليلة ثلاثاءٍ شاتية ماطرة، طرق رجلٌ في منتصف الليل باب قاضي القرية. لم يكن القاضي يتوقع زائرًا في هذه الظروف، فاتجه إلى الباب بسلاحه ليحمي نفسه، فربما كان الطارق أحد المجرمين الذين لهم ثأر معه، ويريدون الانتقام منه.

ببطء فتح الباب، وفوجئ بالزائر المتأخر. مزارعٌ ميسور الحال من أهل القرية، يلهث بسرعة كمن أنهكه العدو، ويبدو أنه يحمل خبرًا خطيرًا، يخاف لو أبقاه في صدره أن تصيبه جلطة قبل الصباح.

القاضي: خيرًا إن شاء الله، اللهم لا طارقًا يطرق إلا بخير؟
المزارع: أعذرني يا حضرة القاضي، فصاحب الحاجة مجنون، وأنا أتيتك في مظلمة ليس لرفعها عني بعد الله إلا أنت.
القاضي: هل أتيتني في منتصف ليل ماطر قارس البرودة، من أجل دعوى!؟
المزارع: نعم يا حضرة القاضي، وأرجوا ألا تردني خائبًا.

تمنى القاضي لو يدفع هذا المزعج، في صدره بعصاه، ويقحم الباب في وجهه، ولكنه يعرف أن أدب القضاء، يحتم عليه الصبر على أذى الناس وغلظتهم. وبعد حوقلةٍ، وتسبيحٍ، قال له القاضي: ما مظلمتك يا أخي؟

اندفع المزارع كالسيل الذي أُفرج عنه السد، وهذر بكلام كثيرٍ، ملخصه أن ملك هذه القرية، ظلمه وأخرجه من مزرعته في الجهة الجنوبية من القرية، وأن الملك استغل سلطانه وقوته، وطرده وعماله من الحقل، كأنهم كلاب ضالة، لا يرغب أحد بها.

أخبره القاضي أن يأتي إليه في يوم الأحد، لأنه سيبعث غدًا إلى ملك القرية، كتابًا يخبرن فيه بملخص الدعوى، ويسأله المثول بين يديه أو من يوكله، ولذلك فإنه يجب أن يعطي خصمه فرصة كافية ليستعد للدعوى.

قبل المزارع على مضضٍ، فهو عجولٌ يحب أخذ الناس بالصياح والصراخ، ويفضل خوض صراعاته بسرعةٍ لا تسمح لمن يواجهه بالتفكير.

جاء الكتاب إلى الملك، وقد كان شخصًا متواضعًا، يحبه أهل القرية، وقد اختاروه ملكًا عليهم، لأنه يجمع بين القوة والأمانة. فضّ الكتاب وقرأ مافيه، ثم زفر زفرةً عميقة وقال: هذا المزارع اللحوح، لم يكفه أن يمتلك ثلاث أراضٍ زراعية، تنتج له محصولًا يعادل ربع إنتاج القرية! بل راح يستطيل على الحقول الأخرى وينهبها؟

 لكن، ماباليد حيلة، سأذهب لمجلس القضاء، والوثائق معي، ولا بد أن يحكم القاضي لي على كل حال، فقاضينا نزيه لا مطعن فيه. ألح عليه مساعده أن يذهب وكيلًا عنه هذه المرة، فالملك مشغول، وهناك أمور أولى من هذه الدعوى السخيفة، لكن الملك أصر على الذهاب بنفسه.

وفي صباح يوم الأحد حضر الخصمان، وقد أحضر كل واحد منهما حججه، ووثائقه، وبدأ المجلس. عرضوا ما لديهم من الأدلة، والقاضي يستمع بإنصات. ولما تكلموا، وشرح كل واحد منهما وجهة نظره، أخبرهم القاضي أنه سيدرس القضية، وأن موعدهما القادم معه يوم الخميس، للبت في الدعوى، والنطق بالحكم.

كان الحق واضحًا للملك، وكل الأدلة تؤيد كلامه، بحيث أنك لو أحضرت عشرة قضاة وعرضت عليهم الدعوى، لحكم تسعة منهم على الأقل لصالح الملك، لكن القاضي لم يكن ينظر إلى الدعوى هكذا!

 كان القاضي، رجلًا يحب الظهور، ويحب الشهرة والصيت، وفكر أنه لو حكم للملك، لكان هذا متوقعًا، ولربما لَـمَزه بعضهم بأنه يخاف من الملك ولذلك حكم لصالحه.

نفث الشيطان في منخري القاضي، وزيّن له أن يحكم على الملك، ليكسب الصيت والمجد، وليتذكر أهل القرية أنه القاضي الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، وعزم أمره على ذلك.

وفي يوم الخميس جاء الخصمان صباحًا، حضرا، والملك مسترخٍ مطمئن، لا يدور بخلده أن القاضي سيحكم إلا له. أما المزارع فقد كان يمشي على مبدأ: "إن لقحت وإلا ما ضرها الفحل".

كان القاضي متجهمًا عابسًا، فتح ملف الدعوى بسرعة، ثم قرأ ملخصها، يهذه هذًا، ثم سكت طويلًا. وبعد ترقب من الطرفين والحضور، نطق بالحكم، وياللعجب فقد حكم للمزارع على الملك!

صُعق الملك من سماع حكمه، ليس لأنه سيموت من الجوع، أو لأن تلك المزرعة هي مشروع حياته، أو حلمه الذي راوده منذ الطفولة، بل لأن هذا القاضي بحكمه الجائر صار خطرًا على المجتمع، صار غير مأمون العواقب، يسلب الحق من أهله لمصالحه الشخصية فقط.

قام الملك مباشرة، لم يتلكأ، أو يستعطف القاضي. رجع إلى ديوان الحكم، وأنفذ حكم القاضي، وهو متألمٌ متحسر. وبعد تسليم المزرعة لخصمه، أصدر مرسومًا بعزل ذلك القاضي وعين بديلًا له.

وبعد هذه القصة، صار الناس في القرية كل يوم يتحدثون عن عدل القاضي وظلم الملك!؟؟

عن الكاتب

Tariq Al Khamis

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

طارق الخميس