random
جاري التحميل ...

دموع العقل

 

"أهل العقول في راحة"

عبارة نسمعها منذ الصغر. جملة تجعلنا نتظاهر كعقلاء أننا نرضى بما نختاره ونخطط له. حكمة قديمة أقنعتنا أن صاحب العقل الراجح مرتاح، فهو يستطيع معرفة ما يصح وما لا يصح بسهولة، لا يُخدع ولا يُغر كما يُفعل بأقرانه الأغبياء.


أهل العقول طائفة تقدم عقلها على عواطفها، وتلتزم بالقاعدة التي تقول: العقل أولا ثم القلب، نعم هم حادوا الذكاء ،ولا يسمحون لقلوبهم المتسرعة المنفعلة أن تقودهم، يدركون أن عواطفهم تابع لا قائد.


 قبل ألف سنة أو أكثر، عاش رجل عبقري، ذكي لا يختلف على ذكائه اثنان، كان شاعرًا، لكنه لم يعتبر نفسه كذلك، بل قال عن نفسه أنه حكيم، وليس بشاعر. اسمه أحمد بن الحسين. ألم تعرفه يا عزيزي القارئ؟؟ حسنًا، اسمه المتنبي

قال فيما قال من حكمة الشعر، وما أكثر ما فعل:

ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ

وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ

أعذرني، سأتجرأ وأضع الكلام على لسان عمّـنا المتنبي.

 يعتقد المتنبي أن الذكي الصاحب العقل الوافر، يعاني ويشقى وإن كان في نعيم وسعادة، لأنه لا يعيش في لحظته فقط بل يحسب حسابًا لكل شيء، وقد يختلق شيئا في خياله لا يحصل أبدًا ثم يضيف إليه سيناريوهات متشعبة، نسبة حدوثها أندر من الزئبق الأحمر، ويحمل همها، ويقلق منها.

يفكر في كل شيء ويحلل، كثير الأسئلة، دائم الحيرة، متبرم بالحياة التي تعارض أفكاره وقوانينه، وتذيقه كل يوم كأسًا مريرًا، يمتلئ بالتناقضات، والظلم. يشعر أن الواقع يهزمه في كل مرة، مسكين، لا أتمنى أن أكون مكانه ولو أعطيت عقل أرسطو.

وقد يكون ذكيًا وزكيًا، يجمع قوة العقل مع رقة القلب، فعندها  - ويا لتعاسته - تلازمه الكآبة والشقاء طيلة عمره، ويحتقب (يدّخر ويتحمل) همّ غيره مع همه، وهو مؤهل جدًا ليصبح "حمال أسيّة" ناجحًا لا يشق له غبار. قال ابن المعتز العباسي (وهو خليفة حكم يومًا وليلةً فقط): 

وحلاوةُ الدنيا لجاهلِها

ومرارةُ الدنيا لمن عقلا


أما صاحبه أخو الجهالة، فهو شخص قليل التفكير كثير الحركة، لا يحمل هم أحد حتى نفسه. تجده فقيرًا معدمًا، أو فاشلًا لم ينجز شيئا طيلة عمره، لكنه مع ذلك، يضحك طوال يومه، يشعر بالطاقة والحيوية. ينام بسرعة، ويأكل بسرعة، ويتكلم قبل أن يفكر. لا تشغله الأسئلة، ويمشي مع التيار غير متردد. 


لو سألتني عن رأيي في وجهتي النظر السابقتين، أيهما أصوب؟ لأجبتك فورًا: بالطبع، رأي شاعر الدنيا المتنبي.

وليس هذا كراهية للعقل، والذكاء، لأن العقل أداة ميزنا الله بها نحن بنو آدم على سائر مخلوقاته، فالأصل أنها لصالحنا لا علينا. لكننا نسيء استخدام عقولنا، ونرهقها بما لا طاقة لها به، فتعود علينا بالكآبة والمرض، وتجعل الواحد منا حزينًا مهمومًا، حتى ولو كان أذكى خلق الله، وأعقلهم.

عن الكاتب

Tariq Al Khamis

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

طارق الخميس