random
جاري التحميل ...

يوهان #27

في البدء كانت البذرة"

أنا مسبحة كهرمان، وأمّي شجرة صنوبر عملاقة انقرضتْ منذ قرون طويلة. حَزنتْ ذات يوم فبكت، فكنتُ أنا مجرّد دمعة صمغية انزلقت ببطء على جذع تلك الشجرة!


وبعد أحقاب متطاولة، جاء صيادو الكهرمان، بعيونٍ ثاقبة، وأيادٍ خبيرة، وانتشلوني من باطن الأرض. رأوا فـيّ  كنزًا يستحق الاكتشاف. نُظّفت وصُقلت بعناية فائقة، لأتحوّل إلـى حبات مسبحة تلمع كنجوم سماء صيف، وتحتفظ بذكريات عالم لم يعد موجودًا اليوم.


لم تكن هذه العناية من أجل "صفار عينيّ" بل كانت من أجل حفنة من المال يكسبها بائعي إلـى من يهوى اقتنائي. عند كثير من بني آدم، لم أكن قطعة للزينة فحسب، بل كنت رمزًا للتأمل والصفاء، والحكمة والحنكة. مرافقةً للذكر والدعاء وابتهالات السماء.


 تنقّلت من يد إلـى يد، من التجار في الأسواق الشعبية العتيقة إلـى بيوت شهدتْ أفراحًا وأتراحًا. وفي كلّ مرة، كان عمري أطول بكثير من عمر مالكي.

فـي أحد فصول حياتي الطويلة، وقعتُ فـي يد شخص أذاقني من الهوان والعذاب أصنافًا. ليتني كنت تحفةً يتفاخر بها، إذن لهان الأمر ولعرفت ما لـي وما علـي، لكنني عشتُ معه أزمة هُويّة، ولم أدرك أبدًا غايته من اقتنائي وحملي!؟


كان يُهملني فـي الزوايا المظلمة ويعاملني بقسوة وغلظة. تمنيتُ ولو للحظةً واحدة أن يتّخذني سببًا للتواصل مع السماء لكنه لم يفعل!

لطالما رماني أُعطيةً لأُناس لا أدري من هم!؟ لولا أنهم حلفوا بالله، وبالطلاق ألا يأخذوني. وليتهم فعلوا. اييييه الخيرة فيما اختاره الله...


لسوء حظي لم يفلتني ذلك الشخص البغيض أبدًا. طالت صحبتي له كثيرًا... ثم مات.

نعم هكذا بكل بساطة. لقد تعلّم ابن الشجرة أن دوام الحال من المحال، وأن الانتقال من دركات الشقاء إلـى درجات الهناء قد يكون في غمضة عين. 


ابتسم لي الحظ، فاشتراني شخص يقدّر قيمتي الحقيقية. كنت عنده وثيقةً تشهد علـى التاريخ والحضارة. لقد كان يعامل كل الأحجار الكريمة كما يعامل أحفاده. 

كان يُريد الجلوس مراتٍ وأكون في جيبه فيشدّ جانب ثوبه ويُطبق يده علـى جيبه ويرفعه قليلًا  مخافة أن يجلس فوقي  وأتضرر. لقد لقيتُ منه معاملةً مدَت في عمري قرونًا.


 أدركتُ أن كل لحظة تجرّعتُها من ألم الإهمال، كانت رصيدًا  عرفت به قدر الأوقات التي عوملت فيها بحب واحترام. وأنا أدعو الله دائمًا أن يطيل عمر صاحبي وأن يبارك له. 

لا تتعجبوا فللجمادات ربّ يسمع دعاءها أيضًا.


في كل مرة أُلامس فيها أصابع إنسان، أشعر أنني أهمس له بخبر الأيام، وأهتفُ بجمال أبدي وتواصل روحي يتجاوز حدود الزمان والمكان. 

أنا لست مجرد مسبحة كهرمان، بل أنا ذاكرة حية، ورسالة حب تنتقل من جيل إلـى جيل. 



عن الكاتب

Tariq Al Khamis

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

طارق الخميس