random
جاري التحميل ...

الذاكرة تشجب الصيف وتستنكره؟!

صورة من موقع بيكسباي

يقول عبدالمجيد عبدالله: "...حي الشتا وحي ما جابه"

والغموض فيما "جابه" الشتاء لا يصح أن يُكشف. إنه الثيمة المميزة التي تجعل الشتاء مختلفًا عن غيره.



كثيرٌ من الناس -وأنا منهم- نتخيّل الشتاء  آتيًا بأصناف لا تقاوم من المشارب الدافئة  والمآكل اللذيذة.

يقترن الشتاء عندنا بالنزهات الطويلة، والطلعات البرية و"الكشتات" وما شايع ذلك من لذيذ الملاهي وطيب المشتهيات.



الحِمْيَة في الشتاء عذاب مقيم وإصر تنوء بحمله الجبال فتخرّ. 



لو كنتُ مسؤولا عن التوظيف في مكان ما وقدّم لي بعضهم سيرته الذاتية التي تتجاوز خمس صفحات لتصفّحتُها على عجل، ثم سألته مباشرة: هل التزمت بـ"دايت" شتوي من قبل؟

 فإن قال: نعم، وتبيّن لي صدق مقالته ونجاحه في مهمته؛ وظّفته على الفور ولا أبالي.

 فهذا شخص سيحقق أهداف المؤسسة بعزيمة وصبر، وسيُبحِر بها إلى شواطئ التميز والإبداع مهما صعُبت مهمته! 



هل أُلام على تثاقل موازيني الكيلوجرامية في الشتاء!؟ أليس الشتاء مدعاة أكل وشرب واستدفاء!؟ أليس هذا السلوك مركوزًا في فطرتنا ومبرمجًا في جيناتنا؟! فَلِمَ نقاومه؟ 



من مُتع الشتاء الخالصة أن تستلقي على كنبتك وبيدك كتاب جميل، أو تواجهك شاشة ساطعة أمسكت بيدك ريموتها، وأرخيت نفسك وأنت تتلقى مشاهد فِلمك المُختار، أو مسلسلك المفضل، في تكاسل وخدر لذيذ.

حتى ضميرك الحي المشاغب الذي لا يتركك ترتاح سيستحي على وجهه،  ويسكت في هذه الحالة الـ"سرنديبية" التي لا ينبغي أن يقاطعها شيء.



النار فاكهة الشتاء، والجلوس بجانب المدفأة وإن لم يكن لها داعٍ فضيلة لا ينبغي أن تُنسى. إنها وقود إبداعي مُستدام، وحالة من الفيض ستُمدّك بالطاقة حتى تُلاقي أشهر الصيف.



على النقيض من أهل "ويستروس" وما جاورها نتفاءل نحن بمقدم الشتاء واقتراب جيوشه. كان تيريون لانستر يرى أن جنة الأرض هي تلك المكان الذي يستمر فيه الصيف إلى الأبد، وبئس ما كان يعتقد!



قد يكون الشتاء عدوًا لدودًا، وخصمًا شرسًا، وضيفًا ثقيلًا على أولئك الذين لا يجدون ما يؤيهم ولا يواسيهم من مال وطعام ووسائل، فإلى هؤلاء أقول: اسأل الله أن ينزع أنياب شتائكم، وأن يُبدلكم به دفئًا وسلامًا وأمانًا وسعادة.




أَغمِض عينيك، واستحضر قصص الجدات في الليالي الطويلة، ثم انظر هل الصورة التي استحضرتها في ذهنك شتوية أم صيفية؟ 

بالطبع وبلا أدنى شك، ستكون صورة شتوية دافئة تحيط بها تفاصيل الشتاء من كل جانب. الذاكرة الجمعية لبني آدم كلهم تأبى وتشجب وتستنكر أن يطأ فصل الصيف مناطق الحنين والذكريات هذه أو يقترب منها. 



للشتاء هدوء وسكون. له سَكْتة موحِشة وصمت يعمّ أرجاء ليله الطويل. 

هيبة الشتاء لا تزول بسهولة، وإن كانت المدنية الآن قد زحفت على الشتاء بقضها وقضيضها وأضوائها وصناعاتها، إلا أنها لا تزال تتذكر قوته وجبروته، وتعرف حدودها المسموحة وخطوطها الحمراء في التعامل معه.



الوحدة سيئة في كل فصول السنة (والعزلة غير الوحدة طبعًا) لكنها في الشتاء تكون أسوأ، وقد تكون أحسن لا أدري بالضبط. 😅🤷🏻‍♂️



في الثقافة الأوروبية أو في الجزء الشمالي من الأرض يرتبط المخيال الاجتماعي لتلك الأمم للشتاء بالفقد والألم. يقولون: "شتاء العمر" إذا ولى الشباب، وظهرت مخايل الهرم، وصارت لحظة النهاية  أدنى بكثير في خط الزمن من لحظة البداية.



الشتاء هدية إلهية لا تعم البشر كلهم، بل هو على بعضهم نقمة، وداهية تصفرّ منها الأنامل.



أدركتُ جيلًا من كبار السن -انتقل أغلبهم اليوم إلى رحمة الله- ولا أظن أن أحدًا منهم كان يفضّل الشتاء على الصيف. لقد أدركوا هيبة الشتاء وجبروته القديم، حين كانت قلة ذات اليد وضعف الموارد، تجعل الشتاء وحشًا ضاريًا يعضّ الناس بأنيابه وينهشهم بلا رحمة.



حُبّ الشتاء في مجتمعنا بدعة مُحدثة، وأزعم أن  طائفة كبيرة من الناس عليها اليوم، بلا حسيب ولا رقيب!!!



يتفاصح بعضنا ويقول: بردنا أصعب أو أغلظ أو أشد من برد الأوربيين! وربما فتح فمه إن هز أحد الأغبياء رأسه موافقًا له، وقال : "بردنا أعظم من برد كندا. بردنا يدخل في العظم!!".



 بغضّ النظر عن السطحية المُخجلة في وصفه للبرد كأنه يصف "تتبيلة البيك" إلا أنه في الغالب يودّ أن  يقول إننا أقوياء نتحمل البيئة القاسية والشتاء الصعب. ولا يدري المسكين أن المُبتعثين من جماعته في كندا كانوا يبكون ليلًا من شتائها القارص!



يا أخي بالغت وأتعبت نفسك، قل لهم إن الصيف عندكم يا أهل أوروبا وكندا "كلام فاضي" ولا يعد شيئًا. تعالوا عندنا في يوليو لتروا بأعينكم كيف تتحول شوارعنا إلى طائفة من أجود أفران الميكروويف. ستكون حينها صادقًا ما جاوزت الحق قيد أنملة!



عرفت رجلًا يحب الشتاء والبرد. تأخر في الزواج، ثم تزوج وأنعم الله عليه بالذرية. 

سمعته حينئذً يقول لا يمكن أن يحب الشتاء أحد في بيته أطفال، وذلك لكثرة ما يرى من مرض أطفاله ومعاناتهم في الشتاء، ومعاناته معهم. 



لا بأس عليك شتويًا كنت أم صيفيًا.

فتناوب الفصول يعطيها جمالًا، ويجعلنا نشتاق إليها ونحتفي بقدومها. وهذا من تدبير الله الذي صنع هذا الكون وأودعه سننًا وقوانين لا تتأثر بما نتبناه عنها من آراء.



لكني لن أغيّر موقفي، فأنا -وبكل فخر- من حزب الشتاء.


عن الكاتب

Tariq Al Khamis

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

طارق الخميس