random
جاري التحميل ...

صداقة بعقد

في قرية صغيرة، أتى طفل إلى البقالة الوحيدة القريبة منه، واشترى بضعة أشياء، وضعها في كيسٍ صغير، ثم وصل إلى المحاسب الذي كان مالك البقالة نفسه. سَلّـمه الكيس وانتظر. رفع إليه صاحب البقالة رأسه وقال: حسابك كذا يا ابني.

نظر الطفل بعينين خجولتين، ورد: ليس معي مال! قال التاجر بنبرة من اعتاد مثل هذه المواقف: من أبوك؟ فأجاب الصبي:أنا ابن فلان الفلاني. مباشرةً، وضع صاحب البقالة الكيس في يده، وقال: خذه لا مشكلة، أنا أعرف أباك وما عندكم لن يضيع.

في جهة أخرى من الأرض، في مدينة مليونية يفوق عدد السيارات فيها عدد البشر في قريتنا أعلاه، جاء طفل إلى السوبر ماركت، واشترى بعض المنتجات، ولم يكن يحمل نقودًا كالأول.
 نظر إليه المحاسب الموظف، بعد أن اعتذر الطفل بعدم وجود مال لديه، وقال: آسف لا استطيع مساعدتك هذه تعليمات المحل. قالها وهو يتذكر صاحبه يوسف الذي "تمرجل" ذات يوم، فخصمها المالك من راتبه، ووبخه قائلًا: هذا محل تجاري، وليس جمعيةً خيرية.

في المثالين الماضيين نرى نوعين من المجتمعات، سماهما المفكر العظيم عبد الوهاب المسيري: المجتمع التراحمي (القرية في المثال الأول)، والمجتمع التعاقدي (المدينة في المثال الثاني).

حيث الأول مجتمع تشيع فيه البساطة، ويتميز بقدر كبير من الرحمة، والإيمانية، والإنسانية. مجتمع متينةٌ بين أفراده روابطهم الدينية والاجتماعية. 
لا يضرّ فيه ألا يُكتب كل شيء أو يوثّـق. فأهله عاشوا أيامًا كثيرة سويًا، وبينهم "عيش وملح" والعرف محفوظ، والطبع مجرب. مجتمع نسبة الغموض والريبة فيه قليلة ومُـسيطر عليها.

أما المجتمع الثاني فهو مجتمع تعاقدي منضبط، صارم محدد، تنص عقوده على جميع مستويات العلاقة فيه، وما يحق لك - كطرف أول أو ثاني لا يهم - وما لا يحق.
 مجتمع كبير في الغالب، أفراده لا يعرفون بعضهم، وليس بينهم روابط إلا أنهم أفرادٌ فيه. يُشبه الآلة الميكانيكية الكبيرة، التي يكون الإنسان فيها ترسًا أو قطعة غيار، تؤدي دورها المحدد كما يقول "الكتالوج" وتتوقع من جميع القطع الأخرى أن تقوم بدورها المحدد أيضا.

لا يخفى على أحدٍ منا، أن المجتمعات في مهدها، كانت صغيرة، ذات طابع تراحمي، فهي نشأت بروابط إيديولوجية واجتماعية واضحة، تجعل الفرد فيها يفهم سلوك المحيطين به بشكل دقيق، ويعرف ماله وما عليه، حتى ولو لم يُـتفق عليه تعاقديًا.

كبرت هذا المجتمعات وتوسعت، ووفد إليها الناس من كل مكان لأسباب تجارية، أو اجتماعية، أو دينية، فإذا المجتمع يكبر، وإذا الوجوه التي كانت معتادة ومعروفة، تصير جديدة غير مألوفة.

يضطر أصحاب هذا المجتمعات أن يميلوا لتكوين علاقات تعاقدية، فهم لا يعرفون السكان كلهم، ولم تنشأ بينهم تجارب، وعلاقات تجعل الثقة بينهم تنمو، والمعرفة تزداد. وبالتالي شيئًا فشيئًا يتعقد هذا المجتمع ويكبر، حتى يصير تعاقديًا صارمًا، وينسى عفويته القديمة.

يقول د. عبد الوهّاب المسيري: كان التجّار في قريته دمنهور يعتمدون في تعاملاتهم على كلمة الشرف، ويدورون في إطار من المفاهيم الإسلامية. يَـذكر أنه حينما أُقيم أوّل "أوكازيون" في دمنهور (والاوكازيون: كلمة من اللغة الفرنسية "occasion" وتعني بالعربية: فرصة، ومتعارف عليها بمعنى: موعد التخفيضات على السلع التجارية. أو العروض التجارية)،

 اعتبر بعض أهل دمنهور هذه الخطوة خطوةً جريئة، واستنكرها كثير من التجّار، وامتعضوا منها، فمفاهيم التنافس والصراع والبقاء للأقوى لم تكن جزءً من الرؤية العامّة في دمنهور، فالأرزاق بيد الله سبحانه. وتساءل البعض ماذا سيفعل صغار التجّار الآن؟
 فعملية البيع والشراء لم تكن مسألة اقتصادية وحسب، بل كان يتخلّلها قيم أخرى لا تُقاس بالمادة.

وبالمقابل قد تكون العلاقة في ظاهرها تعاقدية، ولكنها تراحُمية في حقيقتها.
 يحكي الدكتور المسيري عن فتاةٍ جاءت عند باب منزلهم يومَ كان صغيرًا. يقول: جاءتنا فتاة كانت على قدر من الأناقة والجمال، تعرض سلّة بها بعض الأشياء للبيع، فرفضتُـها بناء على أنني أعرف عدم حاجتنا لمثل هذه الأشياء.

 فوجئت بأنّ أمّي تزجرني، وذهبت واشترت السلّة من الفتاة بسعر جنيه مصري، مع أنّ القيمة الحقيقية للسلّة لا تتعدّى عشرة قروش! وفيما بعد عرفت أنّ هذه الفتاة ابنة لأحد كبار التجّار الذي أفلس أو توفّي لا أذكر بالضبط، وأنّ عملية البيع والشراء التي تمّت بين أمّي والفتاة تمّت تحت غطاء تعاقدي ظاهري، ولكنّها في الواقع الأمر تمّت في إطار تراحمي، إذ إنّ الفتاة أُعطيت صدقة في حقيقة الأمر، ووظيفة الغطاء التعاقدي كانت حفظ كرامة الفتاة.

الضبط والتعاقد في ظل المجتمعات المليونية والانفتاح على العالم ضرورة لا بد منها، وأداة تضمن للجميع حقوقهم. لكني لا أدري - وأخاف أن أدري - هل ستمتد التعاقدية الصارمة حتى تكون بين الأم وأولادها، أو بين الأخ وأخيه!؟

اللهم عاملنا برحمتك، ولا تعاملنا بعدلك.

عن الكاتب

Tariq Al Khamis

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

طارق الخميس