صورة من موقع بيكسلز |
قبل مئة وعشرين سنة توفّي "فرانك ستوكتون"، وهو أديب أمريكي شهير ذائع الصيت، يعدّ من أشهر كتاب القصة القصيرة في القرن التاسع عشر.
كتب قصة طريفة عن كاتب يؤلف قصصًا قصيرة ويرسلُها للمجلات فتنشرها.
كانت قصصه متوسطة المستوى، إلا أنها تمنحُه دخلًا معقولًا، يكفيه لمتطلبات حياته الأساسية، ويضمن له مأكله وملبسه.
ذات مساء هبط عليه الإلهام دفعة واحدة، فخطّ قصة رائعة مؤثرة سمّاها "المرحومة أخت زوجته".
ناول زوجته القصة لتقرأها، وعندما انتهت ظلت صامتة لبعض الوقت، ثم انفجرت في بكاء حار. قالت له وهي تكاد تستهلك علبة المناديل كلها لتفرغ مخاط أنفها من البكاء:
عظيمة. هذه أروع قصة قرأتها في حياتي!
كان هذا فوق توقعاته، وأعلى من سقف طموحاته، فهو يعرف زوجته ويثق بذوقها الأدبي، وسداد رأيها.
في صباح اليوم التالي، أرسل القصة بالبريد إلى المجلة التي اعتاد النشر فيها.صدر عدد المجلة التالي وفيه القصة.
وفجأةً لم يعد للقراء هدف سوى أن يرسلوا رسائل للمجلة تمدح القصة وتطريها، وتهيم بما احتوته من عواطف جياشة.
طار القراء أيضًا بهذا المؤلف العبقري المبدع، ورجو المجلة أن تُكثر من النشر له.
وصارت أعداد المجلة تنفد في اليوم نفسه الذي تنزل فيه في نقاط البيع، مما جعل إدارة المجلة أن تضاعف حجم المطبوعات لهذا العدد.
نتيجة لذلك اضطر رئيس التحرير أن يرفع مكافأة المؤلف للقصة الواحدة؛ حتى لا يفكر في النشر عند مجلة أخرى. فقد أثبتت التجربة أنه دجاجته التي تبيض له ذهبًا.
مضت الأيام وذهب تأثير "المرحومة أخت زوجته" وحان وقت الكسب من جديد.
كتب قصة جيدة وأرسلها للمجلة. مباشرة عادت له القصة ومعها رسالة من رئيس التحرير تقول:
قصة جيدة، لكن القارئ الآن لم يعد يقبل بهذا المستوى من القصص. أعذرني، لن أنشر لك إلا قصة بجودة "المرحومة أخت زوجته" أو أجود.
هلع المؤلف من هذا الموقف، وأرسل القصة إلى مجلة أخرى، فعادت له بالبريد ومعها رسالة تقول:
لا نريد أن نبدد نجاح "المرحومة أخت زوجته" بقصة متوسطة المستوى كهذه. نحن آسفون.
وهكذا، ظلّ المؤلف يكتب القصة تلو الأخرى، وكانت تعود إليه في كل مرة مع تعليق بأنها ليست بمستوى "المرحومة أخت زوجته"، وأننا لا نريد أن نهدم مجدك ككاتب عظيم أبدع قصة كهذه! لن ننشرها.
كان في كل مرة يصيح: "انشروها وأعطوني مالًا. فليذهب المجد والنجاح إلى الجحيم أريد أن آكل أنا وزوجتي"!
صار الأمر خطرًا. لم يعد في البيت طعام، والملابس متسخة ممزقة، وكيس المال أخف من الريشة!
أشارت عليه زوجته أن يكتب باسم مستعار ويرسل للمجلات من جديد قصصه التي اعتاد عليها.
نجحت خطة الزوجة،وبدأت المجلات تنشر لهذا الكاتب (المجهول) متوسط المستوى، وبدأ يكسب المال من جديد.
ذات يوم كان جالسًا عند الشرفة يفكر ويتأمل، فرأى جزارًا يسنّ سكاكينه على مِسنّ، ولاحظ أنه يتخلص من بعض السكاكين من وقت لآخر. سأله عن السبب فقال الجزار:
هذه السكاكين التي أتخلص منها مسنونة ببراعة، ومشحوذة بإتقان، لذا أتخلص منها! لو رآها زبائني لطالبوا بهذه الجودة إلى الأبد، ولما اشتروا أي شيء آخر أصنعه.
في تلك الليلة جلس المؤلف يكتب شاعرًا بأن الإلهام يزوره. ظلّ يكتب حتى الصباح، وفي النهاية أنجز قصة رائعة سماها "أحزان الخريف".
أعطاها لزوجته وراحت تقرأها وبدأ أنفها يحمرّ. ثم سال الدمع من عينيها وقالت:
هذه أروع قصة قرأتها لك. لم أتأثر بهذا الشكل منذ.. قصة.. قصة. ثم تبادلت نظرة مذعورة معه وأضافت: منذ قصة "المرحومة أخت زوجته"!
اضطرب في رعب، وأشار إليها بيده يُسكِتها.
وعندما جنّ الليل، وضعا القصة في شوال من الخيش، وذهبا إلى مكان عند الهضبة. وهناك حفر حفرة عميقة ألقى فيها الشوال، ثم سدّ الحفرة بالحجارة والتراب! لن تعود هذه القصة إلى الحياة أبدًا.
لقد رأيتُ هذه القصة بحذافيرها.
لا تتعجل بتكذيبي😅، فقد مثّلها المبدع ياسر العظمة في مرايا، وسميت القصة بـ"المرحومة هاجر خانُم"!
أزعُم أن كل فنان عنده "المرحومة أخت زوجته" بشكل أو بآخر. عملٌ يتفوق فيه على نفسه -إن صح هذا التعبير- ويشعر أنه صنعه بروحه وقلبه لا بقلمه فقط.
لا أحد طبعًا يجرؤ على وضع قصته أو قصيدته أو لوحته في شوال من الخيش ودفنها في البرية. فهذه حالة استثنائية لا مثيل لها.
لم يكن الطبيب الاسكتلندي "آرثر كونان دويل" ببعيد عن ذلك. حيث أعربَ أكثر من مرة عن كرهه لشخصيته الشهيرة "شيرلوك هولمز". فقد قالت ابنته في حديث صحفي أن والدها كان يكره النجاح الذى حققه هولمز وفاق نجاحه هو كمؤلف وخالق للشخصية الفذة. لقد ارتبط الناس بهولمز ونسوا المؤلف الأصلي!
موقف الجمهور المُبالِغ بالحفاوة لـ"هولمز"، والمتجاهل لـ"كونان دويل" كان له أثر بالغ في نفس المؤلف، حتى إنه دفعَه إلى قتل شخصيته الشهيرة التى قدمها للقراء أول مرة عام 1886، بعد سبع سنوات من النجاح والشهرة في عام 1893.
فقد أسقطه في شلالات "ريشنباخ" فى قصة "المشكلة الأخيرة" أثناء شجار مع عدوه اللدود البروفيسور "موريارتي".
كانت قصص "شيرلوك هولمز" تُنشر في مجلة "ستراند". المجلة التي تعرضت لهجوم كبير ما إن نشرت قصة "المشكلة الأخيرة" حتى وصل الأمر وصل إلى تظاهر الآلاف أمام مبنى مكاتب المجلة البريطانية. ثم ألغى أكثر من 20 ألف قارئ اشتراكاتِهم في المجلة احتجاجًا على موت "هولمز" المفاجئ الصادم.
خضع "كونان دويل" لغضب الجماهير التي كانت تقول أن هولمز ليس حقًا لك وحدك بل من حقنا جميعًا، وأعاده إلى الحياة فى قصة "مغامرة المنزل الخالي" بعد فترة طويلة من التوقف.
بعثه من موته مرة أخرى لكنه لم يحببه قط.
في حياة الفنان -كالممثل والمؤلف والمغني والشاعر- تحدث أحيانًا أعمال مدمِّرة. بمعنى أنها تكون نقطة مرجعية لجمهوره ومقياسًا لا يقبل بعدها ما كان يقبله قبلها من الفنان نفسه! وهذا مؤلم جدًا لكل مبدع.
فهو لا يدري بالضبط لمَ حقق عمله الذي أحبه الجمهور هذا الصدى؟ ولماذا فاز بإعجابهم كله؟
أكرر ما قلت من قبل فاعذروني:
"الفن خلطة خاصة ومركب عصيّ على التحليل، ولا يمكنك أن تجزم بنجاح عمل فني قبل أن تعرضه على الجمهور".
هذه السكاكين التي أتخلص منها مسنونة ببراعة، ومشحوذة بإتقان، لذا أتخلص منها! لو رآها زبائني لطالبوا بهذه الجودة إلى الأبد، ولما اشتروا أي شيء آخر أصنعه.
في تلك الليلة جلس المؤلف يكتب شاعرًا بأن الإلهام يزوره. ظلّ يكتب حتى الصباح، وفي النهاية أنجز قصة رائعة سماها "أحزان الخريف".
أعطاها لزوجته وراحت تقرأها وبدأ أنفها يحمرّ. ثم سال الدمع من عينيها وقالت:
هذه أروع قصة قرأتها لك. لم أتأثر بهذا الشكل منذ.. قصة.. قصة. ثم تبادلت نظرة مذعورة معه وأضافت: منذ قصة "المرحومة أخت زوجته"!
اضطرب في رعب، وأشار إليها بيده يُسكِتها.
وعندما جنّ الليل، وضعا القصة في شوال من الخيش، وذهبا إلى مكان عند الهضبة. وهناك حفر حفرة عميقة ألقى فيها الشوال، ثم سدّ الحفرة بالحجارة والتراب! لن تعود هذه القصة إلى الحياة أبدًا.
لقد رأيتُ هذه القصة بحذافيرها.
لا تتعجل بتكذيبي😅، فقد مثّلها المبدع ياسر العظمة في مرايا، وسميت القصة بـ"المرحومة هاجر خانُم"!
أزعُم أن كل فنان عنده "المرحومة أخت زوجته" بشكل أو بآخر. عملٌ يتفوق فيه على نفسه -إن صح هذا التعبير- ويشعر أنه صنعه بروحه وقلبه لا بقلمه فقط.
لا أحد طبعًا يجرؤ على وضع قصته أو قصيدته أو لوحته في شوال من الخيش ودفنها في البرية. فهذه حالة استثنائية لا مثيل لها.
لم يكن الطبيب الاسكتلندي "آرثر كونان دويل" ببعيد عن ذلك. حيث أعربَ أكثر من مرة عن كرهه لشخصيته الشهيرة "شيرلوك هولمز". فقد قالت ابنته في حديث صحفي أن والدها كان يكره النجاح الذى حققه هولمز وفاق نجاحه هو كمؤلف وخالق للشخصية الفذة. لقد ارتبط الناس بهولمز ونسوا المؤلف الأصلي!
موقف الجمهور المُبالِغ بالحفاوة لـ"هولمز"، والمتجاهل لـ"كونان دويل" كان له أثر بالغ في نفس المؤلف، حتى إنه دفعَه إلى قتل شخصيته الشهيرة التى قدمها للقراء أول مرة عام 1886، بعد سبع سنوات من النجاح والشهرة في عام 1893.
فقد أسقطه في شلالات "ريشنباخ" فى قصة "المشكلة الأخيرة" أثناء شجار مع عدوه اللدود البروفيسور "موريارتي".
كانت قصص "شيرلوك هولمز" تُنشر في مجلة "ستراند". المجلة التي تعرضت لهجوم كبير ما إن نشرت قصة "المشكلة الأخيرة" حتى وصل الأمر وصل إلى تظاهر الآلاف أمام مبنى مكاتب المجلة البريطانية. ثم ألغى أكثر من 20 ألف قارئ اشتراكاتِهم في المجلة احتجاجًا على موت "هولمز" المفاجئ الصادم.
خضع "كونان دويل" لغضب الجماهير التي كانت تقول أن هولمز ليس حقًا لك وحدك بل من حقنا جميعًا، وأعاده إلى الحياة فى قصة "مغامرة المنزل الخالي" بعد فترة طويلة من التوقف.
بعثه من موته مرة أخرى لكنه لم يحببه قط.
في حياة الفنان -كالممثل والمؤلف والمغني والشاعر- تحدث أحيانًا أعمال مدمِّرة. بمعنى أنها تكون نقطة مرجعية لجمهوره ومقياسًا لا يقبل بعدها ما كان يقبله قبلها من الفنان نفسه! وهذا مؤلم جدًا لكل مبدع.
فهو لا يدري بالضبط لمَ حقق عمله الذي أحبه الجمهور هذا الصدى؟ ولماذا فاز بإعجابهم كله؟
أكرر ما قلت من قبل فاعذروني:
"الفن خلطة خاصة ومركب عصيّ على التحليل، ولا يمكنك أن تجزم بنجاح عمل فني قبل أن تعرضه على الجمهور".
في النهاية، أبوح لكم بسر:
أنا لا أُشفق على الفنان الذي عنده عمل فني مدمِّر، ولكنني شديد الشفقة على الذي ليس عنده إلا المستوى المتوسط، لا أقلّ ولا أكثر!
أنا لا أُشفق على الفنان الذي عنده عمل فني مدمِّر، ولكنني شديد الشفقة على الذي ليس عنده إلا المستوى المتوسط، لا أقلّ ولا أكثر!