random
جاري التحميل ...

يوميات نائب في الأرياف


سأُحدِثكم اليوم عن كتاب لم أقرأ منه حرفًا؟!

توفيق الحكيم أديب مصري قديم -نسبيًا- له أثر ظاهر في الفنون الأدبية في مصر والعالم العربي خاصة في القصة والمسرح.
أصدر كتابًا في الثلاثينيات من القرن الماضي تحدث فيه عن ذكرياته عندما كان يعمل في سلك القضاء نائبًا لوكيل النيابة في الريف المصري، وسمى الكتاب بكل وضوح "يوميات نائب في الأرياف".

حدثنا فيه عن حياة الريف الإنسانية الطبيعية، والساذجة أحيانًا. وكيف تدور خلافات الناس وخصوماتهم ومخالفتهم للأنظمة بقصد وبدون قصد.
رأينا أن معيشة الناس هناك تدور حول مفاهيم فطرية ومتطلبات أساسية، ما عدا فئة قليلة من المسؤولين الذين كانوا يرمون لأهداف أبعد، ويختطّون خططًا لا يدركها عامة أهالي الريف.

تبدأ الأحداث الحقيقية عندما يصاب أحد الذوات والمشاهير-كما يبدو لنا- في القرية بطلقٍ ناري مجهول المصدر.
اسم المصاب: قمر الدولة علوان. اسم فخم، تسمعه فتظن أن صاحبه خديوي، أو باشا أو إقطاعي كبير، والواقع أنه فلاح ريفي بسيط، ولا أحد يعرف لماذا رُمي بالرصاص أصلًا.

يُنقل قمر الدولة علوان إلى المستشفى، فيدركه نائب وكيل النيابة -توفيق الحكيم- ومرافق له من رجال الأمن، وهو في وضع حرج بين الحياة والموت.
حاولوا استجوابه بشتى الوسائل، وبعد جهد جهيد استطاعوا أن يسمعوا منه كلمة واحدة: "ريم" نطقها بصعوبة بالغة كأنه يلفظ معها بقايا روحه.

كما هو متوقع يقبض المخفر على ريم.
وأقول المخفر مجازًا، لأن الأدوار متداخلة كما فهمت في تلك الأيام. فالعمدة والمأمور والنائب، كلهم يشاركون في حفظ أمن القرية ولا بأس عليهم أن يتناوبوا المهام بينهم أو يشتركوا فيها جميعًا.

أُعجب الجميع بجمال ريم وطلتها البهية، واستنكروا أن تؤذي هذه الوردة المتفتّحة أحدًا فضلًا عن أن تقتله، لكن ماباليد حيلة هذه إفادة المصاب، وهذه أصول التحقيق، ولا بد من إلقاء القبض عليها.


في أثناء هذه هذا كله كان الشيخ عصفور حاضرًا وبقوة.
الشيخ عصفور البسيط العميق، المجنون العبقري، المبارك المدنّس. جمع كثيرًا من التناقضات حتى إنك لا تدري أهو نصير البسطاء أم مُعين الظالمين؟!
يتكلم بالسجع والأغاني الشعبية، وربما نطق بالحل الذي أعجز الجميع، أو أنذر بالمصيبة قبل أن تقع!

في خلفية تلك الأحداث كانت الانتخابات تجري على قدم وساق، وقد أولاها مسؤلوا القرية جُلّ اهتمامهم. ولو أن أبشع الجرائم حدثت وقت الانتخابات لما ألقوا لها بالًا ولما اهتموا بها، ما دامت الانتخابات قائمة.

سأل النائبُ المأمورَ عن الانتخابات أهي تجري حسب الأصول؟
فأجاب المأمور: وهل يوجد انتخابات في الدنيا تجري حسب الأصول!؟
فاستدرك النائب: احم، نعم. أقصد مظاهر الأصول؟
فرد المأمور: إن كان الأمر كذلك فنعم، المظاهر تجري حسب الأصول.

وأضاف المأمور أنه لا يتدخل في الانتخابات، ولا يوجّه الرأي العام، ولا يقول للناس انتخبوا فلانًا وذروا علّانًا. بل منهجه الحرية المطلقة تمامًا.
يجعل الناس ينتخبون كما يريدون، ثم بكل "شياكة" يرمي صندوق التصويت في "الترعة" ويأتي بالآخر الذي أعدوه سلفًا وملأوه أصواتًا لهم. فتنتهي الانتخابات وتكون نتيجتها كما أرادوا بهدوء و"نظافة"!!


القضاة في الريف قاضيان. لا أعني بذلك قاضيان في النار وواحد في الجنة. كلا، بل أعني قاضيان حقيقةً.
أحدهما بطيئ جدًا والآخر عجول جدًا. يشتكي البطيء من تكاثر القضايا التي ترده، والسبب في ذلك أنه لا يحكم إلا بغرامة عشرين جـنيهًا فقط. في حين أن القاضي الآخر "المستعجل" لا يحكم بأقل من خمسين جـنيهًا.

والحق أن أغلب ما يحكمان فيه كان من قبيل المخالفات، لا من قبيل الجنح والجرائم.
والمشكلة أنها مخالفات لا يقتنع الريفي بها، ولا تدركها فطرته البسيطة.
فالريفي يعرف أن السرقة ممنوعة. حتى لو كان هو سارقًا، فإنه يعلم بفطرته البسيطة أن ما اقترفه خطأ يستوجب العقاب.
لكن ماذا يفعل الفلاح الذي تُفرض عليه غرامة قاسية لأنه لم يسجل قيدًا رسميًا لكَلبِه عند المديرية؟!
هذا خطأ لا يفهمه الفلاح، وليس في تصوره. فمنذ عُرفت البشرية كانت الناس تقتني الكلاب وغيرها من البهائم بلا قيود ولا سجلّات. حسبهم أن يُعرف أن هذا الكلب كلب فلان وكفى.

نعود إلى قاضينا الآخر.
كان في كل وقت مستعجلًا جدًا. يحضر المحكمة يومًا واحدًا في الأسبوع. يأتي صباحًا ثم يرجع في قطار الحادية عشرة عند الظهر، وما تخلف عنه قط.
لا يستفسر ولا يسأل ولا يجادل، يحكم قبل أن يُشرح له أي شيء. يبدأ نهاره اليتيم بقضايا المخالفات، فيحكم فيها بلمح البصر غير آبه بظروف المخالفة ولا ملابساتها. لا يتفوه إلا بـ"50 جنيه غرامة،، الي بعده". وخلال ساعة ينتهي منها، ثم ينتقل مباشرة إلى الخصومات والشكاوى.

لطالما باغت المدعى عليه قبل أن يدرك أنه في المحكمة أصلًا.
فمثلًا: لو جاءته زوجة تدعي أن زوجها ضربها. فإنه يسأله حتى قبل أن تخطو رجله قاعة المحكمة: ضربتها؟ فإن فتح فاه ليبين موقفه، سكَّته وبكّته بقوله: "قول كلمة وحدة وبس. ضربتها؟"
فإن قال: نعم، حكم عليه قبل أن يدخلوا، وصرفهم من الباب.

وإن قال: لا، تبرّم وسأل الزوجة على ذات حال الزوج: "ضربك؟ بس ولا كلمة جاوبي بنعم أو لا؟ ضربك؟ فإن قالت: لا، أسقط الدعوى وصرفهم من الباب وإن قالت: نعم، تأفّـف واستدعى الشهود وسمع الإفادات، ثم صب جام غضبه على الزوج إن ثبت له أنها ضربها وأذاقه حكمًا انتقاميًا جزاءً له لأنه أتعبه بهذه الدعوى.

يقضي كأنه يريد تحقيق رقم قياسي، ثم يأخذ قفطانه أو عباءته وينطلق ليدرك قطار الحادية عشرة، بعد أن وصى تابعه في الصباح أن يحضر له الخضروات والجبن واللحم، وحوائج المنزل، ثم يلاقيه على متن القطار ويرجعان سويًا.
ولم يكن من النادر أن يحكم وهو في محطة القطار، بل أنه حكم بأقضية وهو ممسك بباب القطار والقطار يسير، والكاتب في الأسفل يسمع حكمه ويدونه.

يُزعجُ نائبَـنا الحكيم أنه لا أحد يلوم هذا القاضي أو يوبّخه. بل على العكس، كانت المؤسسات الرسمية مهتمة جدًا بتحقيق الأرقام "الوهمية" وكان أكبر همها أن تقول في نهاية السنة: حكمت الدائرة الفلانية بكذا وكذا من الأحكام، وأنهت كذا وكذا من القضايا. حتى ولو كانت هذه الأحكام عبثية، أو لا تطبق على أرض الواقع.
يسمّي صاحبنا كل هذه الفوضى بالفساد الإداري. وهو جزء من نظام عملاق قديم يقيس الكفاءة من خلال وزن الوثائق التي ينهيها القاضي أو النائب بالكيلو، كأنه كان عطارًا أو جزارًا! ويقيس تحقيق العدالة من خلال سرعة المحاكمة فقط.

في الرواية أو المذكرات، قصة أساس جرت حولها هذه الأحداث والأوصاف والتفريعات كلها، لا أريد أن أحرق تفاصيلها "القليلة" على القارئ.

"يوميات نائب في الأرياف" قصة حياة طبيعية في الريف المصري تتميز بحركتها وحيويتها. مادة غنية أبدعها قلم الراحل توفيق الحكيم تُفصح لنا عن حياة فطرية بسيطة لم تلوثها يد المدنية بعد.
هي مزيج بين السيرة الذاتية والرواية وقليل من المذكرات.


عودٌ على بدء،
كنت قد قلت لكم أنني لم أقرأ من هذا الكتاب شيئًا.
وقد صدقتُكُم القول، لأنني استمعت إليه كاملًا من تطبيق للكتب الصوتية أشهر من نار على علم، أظنكم عرفتموه فهو لا يخفى على أحد.  تطبيق ... ستوري تل.


عن الكاتب

Tariq Al Khamis

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

طارق الخميس