random
جاري التحميل ...

الأقل هو الأكثر!


صورة من موقع بيكسلز


كيف تكشف البساطة عمق الحياة؟

اقترب الشتاء، وبدأت الرياض تأخذ زخرفها وتتزيّن.

 دخل موسم الأمطار الذي نحبه. نسأل الله أن يغيثنا، ويملأ جنبات صحرائنا مراعيَ ومروجًا.


لو كنتَ يومًا من الأيام في نزهة برية، فمن الأرجح أنك ستتناول إفطارًا محدود الأطباق.

 إذ ليست لديك الرفاهية الكاملة للتفنن في أطباقك، أو الأدوات المناسبة لمائدة عامرة. على الأغلب ستتناول وجبة صباحية  بسيطة معها الحد الأدنى من التوابل. 

المفارقة الغريبة أنك ستستمتع بلذتها، وستشعر أنها أكلة طيبة يبقى طعمها تحت لسانك طوال اليوم.


نحن في حياتنا اليومية اعتدنا على العكس

 تتنافس المطاعم في المدن الكبيرة كالرياض في جودتها وتنوّعها، واختراع أطباق لذيذة تغري العملاءَ بالتجربة، وتدفعهم إلى تنويع طعامهم فوق ما يحتاجونه أضعافًا مضاعفة. 


فلنتذكر يومًا دعانا فيه أحد أصحابنا الكرماء -بالمناسبة بعضهم يقرأُ الآن- إلى وجبة عشاء في مطعم فاخر. أغلب الظن أن نمط أكلنا كان كالآتي: 

 نأكل كمية كثيرة، بسرعة كبيرة، مع عدد هائل من المُـنَكِّهات والتوابل. 

والنتيجة أننا بالكاد نتذوق أيًا منها. لقد اختلطت الطعوم وتشعّبت وغطّى بعضها على بعض.


غيّرت الحياة المعاصرة تكويننا الطبيعي، وعوّدَتنا على العجلة والانتقال السريع من شيءٍ إلى آخر.

 صار لدينا طابورٌ طويل من الأشياء تنتظر تجربتنا لها أو اطلاعنا عليها. وأصبح من الصعب جدًا علينا أن نكتشف أيًا منها حق الاكتشاف أو نحظى معه بتجربة كاملة.

لقد فقدنا البساطة والتركيز للأسف


هذه هي الحياة، ماذا نفعل!؟

البساطة والتركيز هنا لا تعني بالضرورة التخلص من الأشياء الزائدة وحذفها من القاموس، بل تعني السماح بتجربة أشياء أقل كل مرة، وبوقت أطول وعدد مرات أكثر.


إنّ مهارة واحدة ننمّيها بصبر، أو مصدرًا فريدًا رصينًا نطلع عليه بعمق، قد ينقلنا من مرحلة إلى أخرى، وقد يؤثر فينا تأثيرًا عميقًا يغيّر حياتنا كلها بعده.


 كلنا نعلم أن الأمر ليس بالكم أو الكثرة، بل هو بالكيف والأثر الباقي.

العدد الأقل من الأشياء والمقتنيات يسمح لك باحترافها والشعور بها ومصاحبتها. 

ويتيح لك طولُ الزمان أن تصب نفسك صبًا في الذي بين يديك، أن تحصر نفسك في ما تعلم يقينًا أنه راجع عليك بالنفع أو الأثر الحسن.


تقذف شبكة الإنترنت العملاقة كل يوم بأطنان من المحتوى، تحتاج مئة سنة لاستهلاكها.

 في ظل هذا الطوفان المعلوماتي سيكون من الحكمة أن تعرف ما تدع أكثر مما تأتي. 

هذا الأمر يستلزم منك أن تقوم بحمية معلوماتية، كما يوصي أستاذنا يونس بن عمارة.… الحِمية المعلوماتية وضرورتها

 لا تخف من تردّي النتائج فالتركيز في شيء واحد أو قليل يعني نتائج أفضل بشكل عام.


 عندما تُزيل الصفات العارضة لأي شيء ستعرف جوهره الحقيقي، وستشعر حينها بجماله وبساطته الآسرة.

تتكشّف لك الحياة أكثر عندما يكون أمامك الأقل...


ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.

تُعدّ البساطة والتركيز على القليل اليوم مخالفةً للسائد، وسباحةً عكس التيار، والاستمرار عليها والتزامها صعب، لكنها ثمينة تستحق شرف المحاولة.


 التشتت والانتقال من شيء إلى آخر بسرعة كبيرة، عادةٌ استحكمت فينا وصارت هي الأصل في شخصياتنا. والتخلص منها شاق عسير، يُشبه فطام الطفل عن الرضاعة التي يحبها. غير أن النتائج التي ستحصل من وراءه عظيمة.


قال لي أحد الحكماء (وجعلُه من الحكماء تساهل شديد مني) أن المستمع الجيد اليوم هو الذي يستمع إليك والجوال ليس في يده. هذا الشخص أحسن إليك جدًا، و"كثر خيره". لا تطلب منه أكثر من ذلك.


الـفومو "FOMO" مصطلح حديث يعني الخوف من فوات شيء يحدث حولك. وأكبر ما يغذي هذا المفهوم هو وسائل التواصل الاجتماعي الطاغية التي دخلت معنا في مجالسنا وموائدنا وسرائر نومنا.


يتعزز الـفومو "FOMO" عند بعض الذين تجاوزوا سنًا معينة، فهم يرهقون أنفسهم خشية أن يفوتهم شيء "ڤايرَل" أو "هبّة" أو  يصفهم بعض الناس أنهم "شيبان وراحت عليهم"!


تقليبُك للجوال قبل أن تزيل غَمَصَ عينيك لن يجعلك منجزًا أو عبقريًا.

لا تقلق على المجتمع أو على العالم ولا تخف، فعجلة التنمية استمرت بالتقدم حتى وأنت نائم. بل ربما كانت تتقدم أسرع وأنت نائم 😂😁


 هذه ليست حُجّة الكسالى أو البطالين. أو من يريد دائمًا أقل عدد من المهام والأعمال، بل هي ملاحظة لما يمكن أن يحدث من تطور وعمق حينما تُبطئ وتيرتك. عندما  تفعل أقل وتركز أكثر.

تنوع الحياة وغناؤها وامتلاؤها يظهر ببساطتها لا بتخمتها وتشعبها.


 عندما تختبر الأشياء بالكامل وتعطيها وقتها، بدلاً من التسرع فيها، تتمكّن من فعل المزيد.. لأن الأقل هو الأكثر

عن الكاتب

Tariq Al Khamis

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

طارق الخميس