random
جاري التحميل ...

زعيم البيان العربي

 لو سألتني: من أكثر الناس أثرًا في الأدب والبيان العربي، وطلبت مني أن أسمي واحدًا فقط، لما استطعت أن أسمي غير الجاحظ. أبو عثمان، عمرو بن بحر محبوب الكناني، عُرف بالجاحظ والحدقي لبروز عينيه.

 

كتب عنه علامة العصر عبد السلام هارون رحمه الله: “وبعد فالجاحظ إمام فذّ من أئمة البيان في العربية، وليس من الإسراف والمغالاة أن نعدّه زعيم البيان العربي، نطلق القول ذلك إطلاقاً. هو زعيم للبيان العربي في قوته وأسره، وفي دقته وصحته، وحلاوته وجماله وفنّه. كان الجاحظ زعيما للبيان العربي، وهو كذلك أحد زعماء المكتبة العربيّة التي كانت في الصدر المقدّم من مكتبات الدنيا، فيما أسدت للإنسانية والفكر العربي واللسان العربي من خير، وما بسطته على ظلام المدنيات المتهافة من نور”.

 

كان من اليتامى، فقيرًا يعيش في البصرة. أحب العلم، وشغف بالقراءة وقد أحسنت أمه إليه، والى مكتبتنا العربية وتراثنا كله، إذ جعلت ابنها يدرس القرآن، والعلوم الابتدائية، ويتقن القراءة والكتابة، ولم تشغله فقط بكسب الرزق والعيش، مع حاجتهم الماسة إليه.

عاش هائماً بالقراءة شغوفا بها، يستأجر دكاكين الوراقين ليلاً ويقرأ فيها، وربما جاء صاحب الدكان فوجده نائماً على كتاب من الكتب لشدة تعلقه بها. وفي ذلك يقول أبو هفان وهو أحد أدباء البصرة : "لم أر قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته ، كائنا ما كان ، حتى أنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر".


من الناحية الجسدية، كان أبو عثمان دميمًا قبيحًا، شديد سواد البشرة،  قصير القامة، صغير الرأس، دميم الوجه، صغير الأذنين، دقيق العنق، قوي البنية، ومشوه الخلقة، جاحظ العينين، لكنه كان خفيف الروح، حسن العشرة، ظريف النكات، يتهافت الناس إلى الاستمتاع بنوادره وحضور مجالسه. بلغ الجاحظ من الذكاء وجودة القريحة وقوة العارضة والتفكير ما جعله من كبار أئمة الأدب في البلاد العربية.


فقد نهل من علماء البصرة واختلف إلى المساجد ومراكز العلم. أحب سوق "المربد" الذي كان مركزاً يلتقي فيه الأدباء والشعراء وأهل اللغة ليقيموا فيه ندواتهم، وتتلمذ على يد من اعتلى منابره من فحول العلماء، مثل أبي عبيدة معمر بن المثنَّى، والأصمعي، وأبي زيد بن أوس الأنصاري، وغيرهم كثير. وقد تأثر كثيرًا بشيخه، أبي إسحاق إبراهيم بن سيار البلخي المعروف بالنظام المتكلم المشهور.



على حسب تقسيم الأدباء للعصور، يعد الجاحظ من العصر العباسي الثاني وإن كان قد أدرك الأول، إلا أن نبوغه واشتهار أمره كان في الثاني. عاش الجاحظ عمراً مديدا، فقد اتفقوا على أنه توفي سنة 255هـ واختلفوا في سنة ميلاده ما بين عام 150- 160هـ. على كل حال عاش الحدقي زمنا طويلا، وبلغ أكثر من 90 سنة، قضى جلها في القراءة والدرس والتأليف. 


خط لنا كتباً كثيرة جاوزت 100 مصنف، تنوعت بين الكبير والصغير، ما ترك فيها شاذًا ولا فاذًا مما يمكن أن يعلمه أحد في ذلك الزمان إلا وكتب فيه. كتب في الأدب والسياسية والتاريخ والأخلاق وعلم الكلام  والنبات والحيوان والصناعة والرجال والنساء وغيرها.

ويتضح ذلك من عناوين كتبه، مثل كتاب البغال، وكتاب الفتيان، وكتاب القوّاد، وكتاب الوكلاء والمتوكّلين، وكتاب الشارب والمشروب، وكتاب المعلّمين، وكتاب الجواري، وكتاب نوادر الحسن، وكتاب العرجان والبرصان، كتاب التربيع والتدوير، وكتاب الطفيليين، وكتاب أخلاق الملوك، وكتاب الفتيا، وكتاب الحاسد والمحسود وغيرها.



كان قليل ذات اليد، يبيع السمك والخبز عند نهر سيحون بالبصرة، كبر وكهل على ذلك الأمر، ثم حزم أمره وارتحل إلى بغداد، وكان ذلك لما دخلها المأمون راجعًا من خراسان سنة 204هـ.


في بغداد، علا نجمه لمّا اتّصل بوزير المعتصم محمّد بن عبد الملك الزيّات وأصبح  من الموسرين. كان يحب الحرية، لا يصبر على عمل لا يحبه، فقد عمل  الجاحظ مدّةً يسيرةً في ديوان الرسائل مع إبراهيم بن العبّاس الصولي في أيّام المأمون، ولكنّه كره حياة الديوان بسرعة وتركها.


ساعده الحظ وابتسمت مقادير الزمان في وجهه، إذ شب عن الطوق إبان عصر العباسيين الذهبي، فالسياسة مستقرة، وحركة الترجمة في أوجها، والحرية الفكرية تضرب أطنابها في الأرض.

عاش الجاحظ عصر ازدهارٍ كبير للعلوم العربية والإسلامية، فقد تبوأت اللغة العربية مكانةً رفيعةً في تلك الفترة، ونشطت حركة الترجمة والنقل عن الثقافات الأجنبية، وشهدت الدولة الإسلامية أيضا نهضةً ورُقيّاً في كافة ميادين الحياة. كمـا انتشرت الأسـواق الأدبيـة ودواوين الأدباء وأنديتهم التـي كـانت تُقـام فيهـا حلقـات الشعـر والأدب، ويعرض فيها كل جديد.


لم يكن الجاحظ منعزلاً عن الحياة غارقًا في كتبه، بل كان رجلاً واسع العلاقات، عارفًا بالناس من كبار الساسة إلى أفراد العامة. خبر الحياة كلها وأوغل فيها، هو مزيج ممتاز بين الشخصية الانطوائية (Introvert) المتمحور حول الذات المحب للقراءة العاكف على الدرس، والشخصية الانبساطية (Extrovert) الذي يرى الحياة في العلاقات، كثير الدخول والخروج حتى مع الخلفاء والأمراء.


غاص في دقائق المجتمع وجميع طبقاته، سَـوّدَ عن الجواري والغلمان والعمال عشرات الصفحات، وكتب عن ذوي العاهات والكتّاب والفقهاء والبخلاء والموظفين. عقد فصولاً للمقارنة بين الأعراق، فقد كتب عن العرب والعجم والترك والفرس والبربر والحبشة والهند وما لا يحصى من الناس. 


تأملت في حياته ووجدته شخصا واثقًا من نفسه، معتدًا بها، له في كل مسألة رأي، حتى صار له من التابعين فرقة تسمى بالجاحظية. أحب عقل المعتزلة وانتسب لهم، لكنه لم يكتف فقط بمباحثهم الكلامية والفلسفية البعيدة عن هموم الناس، خالط أهل السوق وكتب عنهم حتى في أقل الأمور وأتفهها، وخالط كبار القوم كالخلفاء والوزراء وكتب عنهم في كبار الأمور ومهماتها.



كتابته كأنها شعر نثري، يكتب بأسلوبه جملة قصيرة كأنها شعر بلا وزن ولا قافية، وفي أحيان قليلة، تطول جملته حتى يكون بين المبتدأ والخبر عدد من الأسطر. كثير الاستطراد والهزل، حاضر النكتة لاذع السخرية، مكان العقل عنده ثابت لا يتزعزع. كان يضع القصة في جوف القصة، أُشبّه ذلك بأسلوب ألف ليلة وليلة، إذ تحكي شهرزاد للملك شهريار قصة محددة، ثم يحكي أحد أبطال هذه القصة قصةً فرعية. وتتخلل القصة الفرعية قصة ثالثة ورابعة أحيانًا. ثم تعود للقصة الأساسية. وهذا كان من طريقة الجاحظ إذ كان يتناول موضوعًا ثم يتركه ليتناول غيره.


أشهر كتبه: الحيوان والبخلاء والبيان والتبيين وأخلاق الملوك والمحاسن والأضداد.


في رسائل الجاحظ التي جمعت في العصر الحديث، حفظت  لنا شخصيات وأخبار لا تكاد تعرف لولا ذكر الجاحظ لها، من رجال الدولة والشعراء وغيرهم. وقد استفاد كل من جاء بعد الجاحظ مما كتبه الجاحظ وصار الناس عيالًا عليه في تلك الفنون.


أشعار ضاعت لولا تدوين الجاحظ، أخبار ذهبت لولا كتب الجاحظ، وهو من أوائل من اهتم بالتاريخ الاجتماعي ووصف حياة الناس وطبائعهم، حتى إن ابن خلدون رائد علم الاجتماع الذي جاء بعده بمئات السنين بنى عليه واستفاد منه.

أرخ تأريخاً اجتماعياً بعيداً عن السياسة والمغازي وأخبار الولاة، وصارت مؤلفاته كنزًا أدبياً ومعرفيًا، وجوهرة عزيزة لا يستغني عنها كل من أراد أن يفهم تاريخنا القديم.


وقد عُرفت كلمات وأُثِّلت مصطلحات، أُعتمد في معرفتها على ما خطه يراع أبي عثمان الجاحظ، وما كان لها أن تكون لولا ذلك.

عن الكاتب

Tariq Al Khamis

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

طارق الخميس