random
جاري التحميل ...

كوسة.. بطاطس.. عن بعد

لا أحد ممن حضر سنة 2020 يستطيع أن يقول عنها أنها سنة عادية كغيرها من السنوات. فلو نَسي أنها كانت سنة تخرجه أو سنة زواجه، أو السنة التي نال فيها وظيفة أحلامه، لن ينسى أبدًا أنها كانت سنة الفيروس الأخطر والأشهر، الذي رفع رأس قومه الفواريس (جمع معتسف لكلمة فيروس)، وجعلنا نحسب لهم حسابًا.


عامُ كورونا الذي ألزمنا منازلنا، وحدّ من تواصلنا إلى أقل درجة ممكنة، وأجبرنا على حضور الاجتماعات عن بُعد، بَعد أن كنا نضحك عليها.


صُدم الناس بأمر الفيروس، وأدركوا أن هذا أول عدو في التاريخ ينتشر بهذا الشكل الخفي، ويحبس الناس في منازلها، ويقلب اقتصادها وأنظمتها رأسًا على عقب، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين.


بالطبع ليست هذه أول مرة يُفرض فيها العزل الصحي أوالحجر، فقد كانت أوروبا طوال تاريخها تصارع الأوبئة، وعلى رأسها الطاعون الذي فتك بسكان أوروبا غير مرة، لكننا في بلادنا، لم ندرك شيئًا كهذا ولم نشهده، لا نحن ولا آباؤنا.


أدارت حكومة بلادي أزمة كورونا بكفاءة يشهد لها الأعداء قبل الأصدقاء، وعلى ضوء ذلك، اتخذت القطاعات الوظيفية تدابيرها حسب الحاجة، وصار العمل يُمارس عن بعد في أغلب الجهات الحكومية والخاصة، وشركتنا لم تكن استثناءً، فقد صار الدوام عن بعد طيلة أيام الحجر (أو الحظر) إلا إذا دعت الحاجة الماسة للحضور لمقر العمل بعدد محدود ووقت محدود.


بلغ الحجر أشده في رمضان، حيث إنه - قاتله الله - حرمنا من السهرات الرمضانية، والنفحات الروحانية، التي نشتاق إليها كل سنة. وكانت إدارتنا تعقد الاجتماعات (اونلاين) في الأسبوع مرة أو مرتين، وكان الاجتماع يمتد لوقت طويل نسبيأ، ربما بدافع الملل أو خداع النفس للشعور بالأهمية، لا أدري!؟ مع العلم أن ما نتابعه من أعمال كان ضئيلًا تلك الأيام.


أذكر حينها أن مدير الإدارة وجه دعوةً لحضور اجتماعٍ من الساعة الثالثة إلى الرابعة والنصف، أو قريبًا منها حسب ما أذكر. وكان هذا التوقيت بالذات يصادف بداية وقت الحجر اليومي.


انطلق الاجتماع، وأخذنا نتناقش حول سير الأعمال، الذي كان بطيئًا، فالحركة مشلولة، والشركات كلها في شك كبير وقلق، بسبب الوضع القائم. وُجّه إلي الكلام فتكلمت قليلًا، ثم انتقل النقاش الى مواضيع أخرى، نظرت إلى ساعتي، وأدركت أن وقت منع التجول يقترب، قُمت وخرجت لأشتري بعض الخضروات، فصينية الخضار وجبة أحبها جدًا، ولست على استعداد لتفويتها، من أجل اجتماع خفيف.


وصلت محل الخضروات والاجتماع مستمر، وأنا أستمع بصمت واضعًا السماعات في أذنيّ وأعرف ما يجري ولا أشارك. دخلت المحل، وكان البائع يتلقاني بوجهه ويرحب بي، بابتسامة لم تحجبها الكمامة الطبية. قلت له: " أهلاً يا معلم، لو سمحت عطني كوسة وبطاطس وباميه، و…"

صمّ أذني صوت ضحكات وقهقهات، وسمعت صوتًا يقول: "طارق طارق ههههههه جالس تشتري بطاطس وكوسه، وتارك مشاريعنا ههههههه!!"


كنت قد نسيت اغلاق المايك، فسمع الحضور كلهم ما جرى، ولم انتبه إلا وقد وقعت الواقعة. كان الموظفون يومها يمضون كثيرًا من الوقت في هذا الاجتماع، بدافع الملل فقط، فجاء هذا الموقف العفوي على فراغ منهم، فصار نكتة جعلت الاجتماع لا يُنسى.


أرسل لي كثير منهم على "الواتس" الايموجيات الضاحكة، وقال بعضهم: أحمد ربك أنك لم تكن تفعل شيئًا آخر، لكانت فضيحتك بجلاجل!


لا أخفيكم أنني خجلت مما جرى، واحمرّ وجهي، وشكرت الله كثيرًا أنني لن أرى زملاء العمل إلا بعد مدة طويلة. لقد كنت قلقًا من أن تصبح هذه القصة طرفة تحكى، وأن تلتصق بي، ولا ينساها الناس عني، وتكون سُبةً أبد الدهر. وسوس لي إبليس  أن الموضوع سيتطور، وأن المدراء الحاليين أو المستقبليين سيحقدون عليّ لا محالة وسوف يعتقدون أنني شخص مستهتر لا يقيم للعمل وزنًا.


مَرّ الزمان وتعاقبت الأسابيع والشهور، ونسينا القصة برمتها، وانتهى الحجر، وفارقَنا كورونا إلى غير رجعة إن شاء الله، وعدنا لممارسة حياتنا الطبيعية والحمد لله.


وفي هذه الأيام، وأنا مسترخٍ في ساعة هادئة، تذكرت هذه القصة وضحكت منها كثيرًا، ثم طرأ في بالي أن اسأل الموظفين الذين حضروها عنها، من باب تذكر الأشياء اللطيفة، والضحك على الذكريات، فذلك أمر مضى عليه ثلاث سنوات تقريبًا، ولا يضر أن يُذكر في عرض ما يُذكر من صغائر الأمور.


وعندما سألتهم، تعجبت مما جرى!

لم يتذكر هذه القصة أحد، كأنها مسحت تمامًا من ذاكراتهم، وبعضهم لما سمعها مني ضحك وقهقه، وأكّد بثقة أنه لم يكن حاضرًا عندما وقعت، لأنها قصة لا تُنسى بسهولة. وحتى أكون موضوعيًا فقد تذكرها شخص واحد، تذكرها بعد أن بدأت بها أقصها عليه، فقاطعني وقال ضاحكًا: ايييه تذكرتها تذكرتها.


واليوم، بعد أن صار هذا الموقف مجرد قصة، أيقنت أن خوفي من تذكر الناس لها، ومن أنها ستؤثر عليّ وعلى مستقبلي، كان مجرد خيال واهم. ثم صرت حكيمًا بأثر رجعي وتساءلت: كيف يخيفنا الخيال، ويجعلنا نحمل هَـمّ أشياء لا أساس لها من الصحة، ومشاكل أتفه من أن تُذكر؟


أشعر الآن أنني لم أندم على ما وقع، مع أنني في الماضي ندمت. لم أندم، لأنها صارت ذكرى جميلة، تستحق أن تروى، وطرفةً نادرةً لا تحدث كل يوم. حتى ولو كانت على حسابي، لأنني مستعد أن أتعرض لإحراج غير كبير كهذا وأظفر بقصة رائعة، على أن أقضي وقتي على الهامش لا لي ولا عليّ.


نعم، لا تزال الأيام تثبت لي، أن عامة ما نقلق منه مجرد أفكار، نحن جعلناها بخيالنا حقائق، وصدقناها وتوترنا بسببها، ولو كُشف لنا عن نهاياتها وعواقبها لضحكنا على أنفسنا، ولاستصغرناها، ولم نبالِ بها.


لن نحفظ الدرس طبعًا، ولن نتعلم منه، فالإنسان جهول ضعيف.

عن الكاتب

Tariq Al Khamis

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

طارق الخميس