random
جاري التحميل ...

التوقيعات أم التغريدات

كانت آداب اللغة العربية في العصر الجاهلي تكاد تنحصر في الشعر والخطابة وبعض النثر. 

وكان الشعر إذ ذاك يمثل المكون الأساسي لجميع أشكال الأدب العربي، فقد صبغها جميعاً بصبغته وأثر فيها بطبيعته، فالخطب عباراتها قصيرة مقفاة، والنثر مسجوع كأنه الرجز. 
فلما جاء عصر صدر الإسلام والدولة الأموية ازدهرت الخطابة وعلا شأنها، وذلك بسبب ضرورة بيان الدين وتوضيحه، ونشوء الدولة الإسلامية التي لم يكن لها وجود من قبل، مما جعل شأن الخطابة يرتفع وأهميتها تسمو على كل ألوان الأدب، فجاءت خطبة الجمعة والعيدين وسائر المناسبات وكان أكثر الخلفاء والولاة من أهل الخطابة والبيان.
وفي عهد الدولة العباسية ازدهر الأدب غاية الازدهار ونقلت العلوم الأجنبية، وعرفت الفنون الإسلامية، ونضج العقل العربي واكتمل.
وكان من مظاهر هذا الازدهار والتمدن، لون جديد من ألوان النثر وهو التوقيعات.
وهي ما يعلقه الخليفة أو الوالي أو الوزير أو الرئيس على ما يرفع إليه من الكتب في شكاية حال أو طلب نوال، وميزتها الجمع بين الإيجاز والجمال والقوة، وقد تكون آية أو مثلاً أوبيت شعر. 
فمن توقيعات أبي جعفر المنصور أنه قد كتب إلي عامله عبد الحميد صاحب خراسان: شكوت فأشكيناك، وعتبت فأعتبناك، ثم خرجت على العامة! فتأهب لفراق السلامة. ووقّع إلى صاحب مصر حين كتب يذكر نقصان النيل: طهر عسكرك من الفساد، يعطك النيل القياد. ووقّع في كتاب أتاه من صاحب الهند يخبره أن جنداً شغبوا عليه وكسروا أقفال بيت المال: لو عدلت لم يشغبوا، ولو وفيت لم ينهبوا.
ووقّع المأمون في قصة متظلم من أبي عيسى أخيه: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون). 
ووقّع جعفر بن يحيى البرمكي في كتاب إلى الولاة: الخراج عمود الملك، وما استُغزر بمثل العدل وما استُنزر بمثل الجور. وكتب في رقعة معتذر من ذنب: قد تقدمت طاعتك وسبقت نصيحتك، فإن بدرت منك هفوة فلن تغلب سيئة حسنتين. ووقّع في كتاب رجل شكا إليه بعض عماله: قد كثر شاكوك، وقلّ شاكروك، فإما اعتدلت، وإما اعتزلت. ووّقع في قصة مستمنح قد أعطاه مراراً: دع الضرع يدرّ لغيرك كما درّ لك.
هذا لون من ألوان الأدب نشأ وازدهر لما دعت إليه الحاجة من كثرة الكتب والشكايات، وحرص الولاة على تبليغ الأمور بدون لبس أو إشكال، آخذين بالاعتبار سلامة المنطق وإيجاز العبارة
 أليست شبيهة بالتغريدات في زماننا هذا؟
  

عن الكاتب

Tariq Al Khamis

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

طارق الخميس