random
جاري التحميل ...

في دنيا القراءة

صورة من أنسبلاش

لو كنتَ في معرض الكتاب، ولقيك أحد من يظن أن الكتب أصدقاء لك وسألك:

فلان -وعدّل نظّارته- ما تعريفك للقراءة؟


فإنك ستحتار في إجابته. لأنك تفترض أن أيّ إنسان شدا شيئًا من التعليم وجاز مرحلة الطفولة، لن يسأل عن القراءة قاصدًا معناها الحرفي. بل الغالب أنه يرمي إلى معنى أبعد وأعمق، أو يريد أن يختبرك.


كن أذكى منه وأدهى، وأطلق زفرة من أقصى جوفك، ثم قل له: كما قال عمنا نجيب محفوظ “القراءة هي التنفس الثاني للإنسان".


وإن أطال النظر إليك وأحسست أنه حائر بين الإعجاب بك أو الإشفاق عليك، فأرسِل له إجابتك الأخرى وكن واثقًا وأنت تقولها:

القراءة هي خروج الذات من ذاتها. القراءة تفتح لنا آفاقًا شاسعة، وتبدد العتمة التي تغشى عيوننا.


أجزم أنه بعد ذلك سيهزّ رأسه علامة على الفهم -الذي لم يدركه- وسيمضي في حال سبيله وهو معظمٌ لذكائك وفصاحتك، ونادبٌ حاله وعِـيّه وبلاهته.


الحق أنك لم تكذب عليه، فالقراءة يصدق عليها ما قلته له وأكثر.


قصتنا مع القراءة طويلة، إذ  يُقال أن باكورة لقاءاتنا معها كانت يوم خط الإنسان الكتب الأولى في مصر قبل 3000 عام من الميلاد تقريبًا على ورق البردي، أو قبل ذلك على الألواح الطينية في بلاد الرافدين.


استمرت القراءة، وزاد عدد الكتب بشكل ضئيل وبطيء، ومع مرور الزمن بدأ يزداد بشكل ملحوظ، ثم قفز قفزته الكبرى مع انتشار الطباعة.


واليوم، صار عدد الكتب مهولًا لا يدركه علم إنسان ولو عاش عمر نوح عليه السلام.


لا سيما إن كان يجيد القراءة بأكثر من لغة، وفي الغالب أن هذه اللغة الأخرى ستكون الإنجليزية، فعندها ربما يستهلك عمره كله في عدّ عناوين الكتب فقط دون الاطلاع عليها.


إذن، سيواجهنا سؤال جوهري ملح:

 كم من الكتب يجب علينا أن نقرأ؟


أقول بكل يسر ووضوح: هذا سؤال لا يمكن الإجابة عليه بدقة. لأن الغرض من القراءة مختلف باختلاف الأشخاص وغاياتهم.


حتى إن كان هدفك من القراءة واضحًا، فلن يكون سهلًا عليك أن تعرف أنك حققته بعدد محدد مضبوط من الكتب، لأن العلم متجدد وفي ازدياد دائم.


نَخلُص من ذلك بنتيجة مفادها أن القراءة رحلة طويلة زادها العمر كله.


ندِم بطل رواية  ثلوج كلمنجارو لأرنست همنغواي -وهو على فراش الموت- على الكتب التي لم يكتبها، وزعم أنه يعرف أكثر من عشرين قصة عن هذه المنطقة من العالم لم يدونها هو ولن يدونها أحد من بعده.


يقول مؤلف كتاب تاريخ القراءة ألبرتو مانغويل: "إن سلسلة الكتب التي لم نكتبها مثل سلسلة الكتب التي لم نقرأها. وهي سلسلة تمتد إلى أقصى زاوية المكتبة التي لا نهاية لها"

 ويضيف: "إننا نقف دومًا  في بداية المجلدات الأولى من حرف الألف!"


ليس الأمر طبعًا بكثرة القراءة، بل بما يتحصل منها، وبما يُلبّي بُغية القارئ التي تختلف بين مريد للفائدة المباشرة أو المتعة الحاضرة أو الفائدة المؤجلة.


الملل عندي دافع للقراءة، ومحفز عليها، ومن آفات أيامنا هذه أن هامش الملل تضاءل في حياتنا فتضاءل معه حيز القراءة.


القراءة عملية لا نهائية من الاكتشاف تضيء لك من الحياة بقدر ما تدرك أنت منها.

 إنها حمّالة أوجه  تتطور تبعًا لمحصلة القارئ المعرفية والذهنية، وسعة تجاربه وتنوعها.


لن أبالغ في شأن القراءة أكثر من هذا، إذ ليس من العقل ولا من المنطق أن نسجن الحياة كلها في القراءة.


فمهما كان ما تعطيك إياه القراءة فإنه يظل نصًا مفتقرًا إلى تجربة، أو موضوعًا سائرًا في سياق واسع تموج به الحياة. 


فالقراءة عنصر من عناصر الحياة لا تغني عن سعة الحياة وألوانها الزاهية أحيانًا والباهتة أحيانًا أخرى.


الحياة هي المؤلف الأعظم. قالت العرب: "عش رجبًا ترى عجبًا".


القراءة لفظ للكتابة، فهل يعني ذلك أن نكتب  كل شيء؟

من حق الإنسان أن يكتب ما شاء.

أما النشر فهو من حقه أيضًا.

أما أن يُقرأ فذلك حق لقارئه. أما التأثير فليس حصرًا له ولا لقارئه ولا لبائعه، بل كل واحد منهم شريك في التأثير بسهم، زاد ذلك السهم أو نقص.


لا أحب التوجيهات القرائية أو القوائم الخاصة، لأنها تحد من قدرة الإنسان على الاكتشاف، وتنقص من متعة العثور على كتاب مهمل، أو كاتب مهمش منزوٍ في ركن مظلم من التاريخ، أو تجاهلته آلة الإعلام العملاقة ولم يكن هو بدوره حريصًا عليها.


لكننا للأسف مضطرون لهذه التوجيهات والقوائم في هذا الكم الهائل من الصوارف، والمحيطات الغاصّة بالمحتوى مكتوبًا ومسموعًا ومرئيًا.


قد تكون قرائتنا لكتاب ما، معيارًا لما فعلته الحياة بنا.


فعندما تفتحُ كتابًا قرأته قبل زمان طويل، ويسعفك الحظ فتجد فيه هوامش وتعليقات بخط يدك، ستعلم حينها كم تغيرت الآن عما كنت عليه من قبل.


 نحن لا تقرأ كتابًا مرتين، ولا نعبر النهر مرتين. إن كتابًا قرأته صغيرًا يستحيل كتابًا آخر حين تقرأه  كهلًا.


الكتاب كائن حي يَتخذه من يُحبه صديقًا وفيًا كما قال أمير الشعراء، أحمد شوقي:

أَنا مَن بَدَّلَ بِالكُتبِ الصِحابا     لَم أَجِد لي وافِياً إِلّا الكِتابا


أراد كُتْبيّ مشهور أن يبيع مكتبته لأزمة مالية أحاطت به.

عزم على الأمر وحدد موعدًا لبيعها، فمرض مرضًا شديدًا، وعلم أن فراق الكتب كفراق الأصدقاء، فغير رأيه وصبر على أزمته.


باعت سيدة عربية أمهات (أو أُمّات) كتبٍ عندها لتشتري نصف كيلو من القهوة. وحين عادت إلى بيتها أعدّت كوبًا من هذه القهوة، ليفاجئها بعد ذلك مغص حاد، نجم عن شربها لهذه القهوة.

وقدّرت أن مؤلفي تلك الكتب التي قبضت ثمنها حفنة من القهوة، ينتقمون لأفكارهم حين باعتها بثمن بخس.


إذا أهداك شخصٌ تُحبّه كتابًا، أُضيفت قيمة هذا الكتاب إلى قيمة ذلك الشخص عندك. ستراه حاضرًا متمثّلًا أمامك كلما أمسكت كتابه أو نظرت فيه.


بالنسبة لي، تستحق الكتب الأكثر مبيعًا  الاحترام والتقدير بشرط واحد:

أن  لا ينوي صاحبها حين تأليفها أن يكون كتابه من الكتب الأكثر مبيعًا . وهذا شرط لا أظنّ أن يتحقق.


كم تمنيتُ أن كل شعر الجاهلية وأخبارها حُفظت ووصلت إلينا.

لطالما وددت أن أعرف من أخبار الخضر عليه السلام وعجائبه، غير ما ذكر لنا منها في سورة الكهف.

إنني أشتاق إلى معارف لم تُعرَف، وأخبار لم تُخبَر. ليت المتنبي ألّف كتابًا منثورًا، ضمّنهُ ما يجد من أسى مشوب بالغرور، وما لقي من عنتٍ في حياته، وكيف قصّر واقعه عن حلمه. 

أتمنى ذلك، مع أن شعر المتنبي الذي وصل إلينا كثير ومحفوظ.


ما الذي يجعل مؤلفًا يريد إتلاف كتبه؟

 مثل كافكا الذي أوصى صاحبه بإتلاف كل ما يجد من أوراقه. هل يخشى الخلود، أم يريد أن يكون ذكره بين الناس قصيرًا كعمره القصير؟


لعل الخوف من العاقبة كان سببًا في ذلك، كما فعل  صاحب بغداد أبو حيان التوحيدي، الذي لم يتردد فأحرق كتبه وغسل بعضها بالماء.


ثم اعتذر من ذلك وفسره في رسالة بعثها جوابًا للقاضي أبي سهل علي بن محمد. جاء فيها بعد الديباجة والتحية:


"إن العلم حاطك الله يراد للعمل، كما أن العمل يراد للنجاة، فإذا كان العمل قاصرا عن العلم كان العلم كلّاً على العالم، وأنا أعوذ بالله من علم عاد كلًا وأورث ذلا وصار في رقبة صاحبه غلا، وهذا ضرب من الاحتجاج المخلوط بالاعتذار.


ثم اعلم- علمك الله الخير- أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سرّه وعلانيته، فأما ما كان سرّا فلم أجد له من يتحلّى بحقيقته راغبا، وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالبا،

 على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم ولمدّ الجاه عندهم، فحرمت ذلك كله، ولا شكّ في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي وربطه بأمري، وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجة عليّ لا لي"...

 إلى آخر ما قال.


أنواع الكتب -كما يُـزعَم- كثيرة.


أنواعٌ لا على التقسيم الذي يتبادر إلى أذهاننا  ونعرفه جميعَا، بل على فئات غريبة عجيبة. فكتب للنساء وكتب للرجال وكتب للنهار وأخرى لليل، وكتب للشتاء وكتب للصيف، وكتب للمقهى وكتب للمنزل…الخ.

أرى ذلك تسويقًا تجاريًا، وحيلة تتخذها بعض الشركات للتلاعب بالناس.


وليس من ذلك ما يختاره الإنسان لنفسه، أو ما تعود عليه في تلقائية غير مقصودة. كمن يضع القصص القصيرة أو الروايات عند رأسه، يقرؤها قبل النوم.

 أو من يحب القراءة في مكان معين ولا يقرأ في غيره.


هذه الطقوس في القراءة وغيرها لا تُشرح ولا تُعلل. وقد تشيع حتى يُستغرب خلافها، مثل أن يستمع أحدٌ الناس لفيروز ليلًا، ويجعل الست أم كلثوم صباحًا!!


العادة عندي أن  أقرأ كتابين أو أكثر في نفس الوقت،  ولا يكون موضوعهما متقاربًا، كأن يكون الأول سيرة ذاتية والثاني كتابًا عن فن الكتابة مثلًا.


أحبُ القصص في الليل فهي مرتبطة بالنوم، وبعضها علاجٌ فعّال للأرق ينبغي أن يُصرف في الصيدليات، فهي تُجبرك على إغماض عينيك باستسلام.


قيل إن أجمل الكتب هي تلك الكتب التي لم نقرأها بعد!!


كحال مغني القرية الشعبي الذي يغني في كل عرس أغنية جديدة لم يغنها من قبل. ولذا ظل الناس دائمًا يقولون: إن  أجمل أغانيه كانت تلك الأغاني -القديمة- التي لم تُحفظ!


أو كما صنع الشاعر الذي حرق أبوه  صندوقًا مليئًا بأشعاره. لأن الأب كان يعتقد أن الشعر غواية وضلالة.

فاستمر الابن في الشعر، وراق له اعتقاد الناس أن أجمل قصائده كانت في الصندوق الذي أحرقه أبوه الحانق!


الوقت الكافي للقراءة ليس شيئا قانونيًا ثابتًا. رأيتُ كثيرًا من المواقع والكتب والمقالات توصي بألا يقل معدل القراءة عن نصف ساعة يوميًا.


حسنًا، لا بأس بذلك. ليس هذا الأمر إلا تجربة محمودة النتائج. المهم ألا تدع القراءة والاطلاع بشكل عام.


كما قلنا عن الملل، نقول عن أخيه الفضول. القراءة تحب الفضول والفضول يحبها.


الفضول خصلة ذميمة في بعض الأحيان، إلا إن حثّت على القراءة وحرضت عليها، فإنها تنقلب صفة حميدة مفيدة، كَـثّر الله في الناس منها.


سواء كنت القارئ الذي يتصفح كتابًا جديدًا كل أسبوع، أو القارئ الذي لا يزال يتصفح كتابًا من الأكثر مبيعًا أوصاه به صديقه منذ أشهر، فإن أبحاث علماء النفس تُقرر أنك تقضي وقتك بشكل جيد، سيعود عليك بالنفع.


القراءة تساعدنا على فهم الآخرين والتفاعل معهم بشكل أفضل، وتحافظ على حدة أذهاننا، وتوسّع نظرتنا إلى العالم، وتنمّينا أفرادًا ومجتمعات.


كما يقول جرين. "تتيح لنا القصص أن نشعر بالارتباط مع الآخرين في هذه الدنيا، وأننا جزء من شيء أكبر من مجرد أنفسنا."


لا تحقرن هذا الكتاب الذي تحمله بين يديك فهو. ليس مجرد قصص وأبحاث ومقالات، بل هو صحة أوفر وعاطفة أغزر ونوم أعمق.

🔚🏁


*أشكر الأستاذ حسن مدن 
مؤلف كتاب الكتابة بحبر أسود  فقد استفدت منه كثيرًا في هذا المنشور، فهو كما يقال: "السهل الممتنع".

عن الكاتب

Tariq Al Khamis

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

طارق الخميس